في وداع الحبيب
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
في وداع الحبيب
بسم الله الرحمن الرحيم
في وداع الحبيب
عادل بن أحمد باناعمة
أما بعد:
هاهنا كان مثل زهر الأقاحي *** ينشر العطر في الربا والبطاح
هاهنا كان كالربيع ائتلاقا *** كبدور الدجى كنور الصباح
هاهنا كان سلسبيل صفاء *** يتحف الصحب بالنمير القراح
هاهنا كان غير أن الليالي *** نسخت حسنه فأدمت جراحي!
نعم، بالأمس القريب كان معنا، كنا نستنشق عطره، ونسعد في أفيائه، ونتقلب في ضروب نعمائه.
بالأمس القريب كنا نغترف من بركاته، ونخوض في بحار حسناته، ونرجع كل ليلة بجر الحقائب بما حملنا من خيراته.
بالأمس القريب كنا نقطف من روضه زهور الإيمان، ونجد في رحابه الأنس والاطمئنان، كانت تحلق فيه الأرواح، وتطير من غير ما جناح!
واليوم، أين هو شهر رمضان؟! ألم يكن منذ لحظات بين أيدينا؟! ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟! ألم يكن هو حديث منابرنا؟! زينة منائرنا، بضاعة أسواقنا ومادة موائدنا وسمر أنديتنا، وحياة مساجدنا؟! فأين هو الآن؟!
أين حرق المجتهدين في نهاره، أين قلق المتهجدين في أسحاره؟! أين خشوع المتهجدين في قيامهم، ورقة المتعبدين في صيامهم؟! أين أقدام قد اصطفت فيه لمولاها، حين دعاها للهو واللعب هواها؟! أين أعين جادت فيه بجاري دمعها، حين تذكرت قبيح صنعها؟! أين قلوب حلّقت فيه بجناحين من خوف ورجاء، وسارعت إلى مرضاة ربها تلتمس النجاء؟!
أين أيام كانت حياة للحياة، وليال كن قلائد في جيد الزمان؟!
لقد تولت كما تولى غيرها، وتقضت بما فيها ولم يبق إلا الندم والأسى.
تذكرت أياما مضت ولياليًا *** خلت فجرت من ذكرهن دموعُ
ألا هل لها يوما من الدهر عودة *** وهل لي إلى يوم الوصال رجوعُ
وهل بعد إعراض الحبيب تواصل *** وهل لبدور قد أفلن طلوعُ؟!
أتذكر -أيها الأخ الكريم- سويعات كانت من الصفاء أصفى، ومن الشهد أحلى؟!
أما يحن فؤادك إلى دمعات كنت سكبتها؟! وعبرات من خشية الله قد أذريتها؟!
أما يهتز قلبك شوقًا إلى لحظات صفت فيها نفسك وحلقت روحك حتى كأنك تجاوزت الأرض وطينها وتنشقت روائح الفردوس؟!
أما يعظم أسفك على أيام رفعت فيها يديك مناجيًا مولاك، فأطرقت رأسك ذلاً واغرورقت بالدمع مقلتاك؟!
لقد مضى ذلك كله، وطوي بساطه، ومرّ كأن لم يكن، وعاد ذكرى في النفس بعد أن كان واقعًا يشهده الحس، وبقيت في النفس حزازات أسى وألم على فراق راحل عزيز.
أترحل لا الصحب منك ارتووا *** ولا امتلأت منكم المقلتان
أترحل والقلب بعد مشوق *** له لغة من هوى وحنان
فيا لفؤادي إذا حركته *** رؤى ذكريات لطاف حسان
وأصداء ماض تولى حبيب *** وأطياف شهر طواه الزمانْ
لقد كان ما كان وانقضى الشهر، وخرج الناس من رمضان وهم فريقان:
فريق نصح فيه لنفسه، وقام بحق ربه، فصامه إيمانًا وقامه احتسابا، وتحرى فيه مراضي مولاه، وتجنب مظانّ سخطه، لم يفرط في دقائقه، ولا أرخى لنفسه زمام هواها، قد اغتسل فيه من ذنوبه وتطهر من أوزاره وخرج منه يترنم:
اليوم ميلادي الجديد وما مضى *** موت بليت به بليل داجي
إني سريت إلى الهداية عارجًا *** يا حسن ذا الإسراء والمعراج
وفريق آخر تمنى على الله الأماني وأتبع نفسه هواها، فأمضى نهاره في سهو وليله في لهو، أطلق لبصره العنان، وأرهف سمعه لمساخط الديان، لم يرع للشهر حرمته، ولا عرف له حقه، وكم نصح فما قبل النصح، ودعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، شاهد الواصلين فيه وهو متباعد، ومرت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المقت، ندم على التفريط حين لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم. وهيهات هيهات.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى