شارل ديغول
صفحة 1 من اصل 1
شارل ديغول
ولد شارل ديغول في 22 نوفمبر 1890 ومات في 9 نوفمبر 1970، وهذا يعني أنه عاش ثمانين عاماً بالتمام والكمال إلا بضعة أيام، وفي أثناء هذا العمر الجديد كانت حياة ديغول مليئة بالأحداث التاريخية، ولكن قبل ان نصل الى ذلك ينبغي ان نتوقف قليلاً عند طفولته وشبابه الأول.
لقد ولد ديغول في مدينة "ليل" عاصمة الشمال الفرنسي في عائلة كاثوليكية محافظة، مثقفة، فأبوه هنري ديغول كان استاذ تاريخ وأدب في المدارس الخاصة، وقد عرفه على كبار كتاب فرنسا من امثال باريسي، وبيرغسون وشارل بيغي وأخرين.
ثم اختار ديغول المهنة العسكرية وتخرج ضابطاً من كلية سان سير الشهيرة عام 1912، أي في سن الثانية والعشرين، وقد شارك بعدئذ في الحرب العالمية الأولى وجرح في الحرب عام 1914، وتشاء الأقدار ان يكون رئيسه المباشر آنذاك الجنرال فيليب بيتان الذي سيصبح عدوه الأول أثناء الحرب العالمية الثانية لأنه تحالف مع الألمان وقبل احتلالهم لفرنسا على عكس ديغول.
ثم أسر في الحرب عام 1916 من قبل الألمان وظل في الأسر سنتان ونصف، أي حتى نهاية الحرب وتحقيق الهدنة بين فرنسا وألمانيا، وكانت تجربة الأسر مريرة بالنسبة له لانه شعر بعدم القدرة على خدمة بلاده عندما كانت المعارك تشتعل ضاربة.
والواقع أنه حاول ان يهرب من الأسر خمس مرات ولكنه كان يفشل في كل مرة بسبب طول قامته، فقد كانوا يعرفونه ويكتشفونه فوراً لأنه أطول رجل في المعسكر، وقد منحوه وسام الشرف بعد انتهاء الحرب نظراً لبطولته وتضحياته في ساحة الوغى.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية كان ديغول قد أصبح عقيداً في الجيش الفرنسي وقائداً لاحدى سرايا المدفعية ولكنهم رفعوه فوراً الى رتبة جنرال وأعطوه قيادة أكبر فرقة عسكرية في الجيش لكي يعيد الهجوم الألماني على باريس.
ولكنه لم ينجح في ذلك بسبب قوة الهجوم الألماني الذي اخترق خط ماجينو، نقول ذلك على الرغم من شجاعته ومخاطرته بنفسه أثناء المعارك، ونظراً لذلك فقد عينوه وزيراً في الحكومة في تلك الفترة العصيبة، ولكنه رفض معاهدة الهدنة أو الاستسلام للألمان، وغادر فرنسا سراً في اللحظة التي استلم فيها الماريشال بيتان السلطة. وذهب ديغول الى عند تشرشل في لندن لمقاومة النازية.
ثم دخل التاريخ يوم 18 يونيو من عام 1940 عندما وجه نداءه الشهير الى الشعب الفرنسي قائلاً : »أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة ولكننا لم نخسر الحرب وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب من نير الاحتلال الجاثم على صدره«.
وهناك في لندن راح الجنرال ديغول يشكل في المنفى حكومة فرنسا الحرة، وهكذا أصبحت لفرنسا حكومتان: الأولى برئاسة الماريشال بيتان ومقرها في مدينة »فيشي« وهي عميلة للألمان.
والثانية في المنفى الانجليزي برئاسة ديغول وهي مضادة لأي تعامل مع المحتل، وعندئذ انقسمت فرنسا الى قسمين قسم مد يداً للمارشال وقسم مؤيد للجنرال، وسوف ينعكس ذلك على تاريخ فرنسا اللاحق كله.
والانكي من ذلك هو ان الماريشال بيتان رئيس الحكومة العميلة راح ينظم محاكمة غيابية لديغول بتهمة الخيانة العظمى! وقد حكموا عليه بالإعدام غيابياً، ونلاحظ ان الأمور سوف تنعكس بعد ذلك بأربع سنوات عندما يعود ديغول ظافراً الى البلاد ومحرراً لباريس، وعندئذ راح هو الذي يتهم بيتان بالخيانة العظمى ويحكم عليه بالاعدام ولكن دون تنفيذ الحكم نظراً لكبر سنة، فقد كان قد تجاوز التسعين.
وفي أثناء الحرب اتفق ديغول مع تشرشل على ان يدفع له هذا الأخير مبالغ ضخمة من أجل تسيير حكومته في المنفى وتنظيم أعمال المقاومة في الداخل، واشترط عليه ان يفعل ذلك على سبيل الدين لا على سبيل الهبات والكرم الحاتمي لكيلا تقيد حريته في الحركة.
وبالفعل فقد رد ديغول كل ديونه حتى قبل انتهاء الحرب
والواقع ان ديغول كان متشدداً جداً فيما يخص المبادىء، ولم يكن يساوم على الشرف الوطني أو الاستقلال الذاتي أو المبادىء العليا، ويبدو ان علاقاته مع تشرشل في تلك الفترة العصيبة من التاريخ شهدت بعض التأزمات والصراعات أحياناً، فكلاهما كان عملاقاً من الناحية السياسية والتاريخية، ولم يكن من السهل على ديغول ان يخضع لتشرشل حتى لو كان مقيماً عنده.
وفي احدى المرات صرخ تشرشل في وجهه قائلاً: ولكنك لست فرنسا كلها يا ديغول! انت تمثل فرنسا المقاومة، أما فرنسا الأخرى فيمثلها غيرك.
فرد عليه ديغول فوراً: أنا اتحرك باسم فرنسا، وأناضل باسم فرنسا كلها، وأنا أقاوم النازية الى جانب انجلترا ولكن ليس لصالح انجلترا، أنا اتحدث باسم فرنسا ولست مسؤولاً أمام أحد غيرها!
وعندئذ رد عليه تشرشل قائلاًَ: كنت آمل ان نحارب جنباً الى جنب ولكن أملي خاب بكلامك، فقد فهمت انك قادر ليس فقط على محاربة المانيا وايطاليا واليابان وانما ايضاً انجلترا واميركا!
فرد عليه ديغول: آخذ كلامك على سبيل المزاح لا الجد، ولو عرفت انك جاد لغضبت منك غضباً شديداً، فلو كان هناك شخص على وجه الأرض مفيد لانجلترا لكنت أنا هذا الشخص.
وانتهى النقاش عند هذا الحد بين أكبر شخصيتين أثناء الحرب العالمية الثانية.
أما علاقات ديغول مع روزفيلت فكانت أكثر تعقيداً لأن الرئيس الأميركي لم يكن يثق بديغول وكانا يحتقران بعضهما البعض على عكس تشرشل، والواقع ان ديغول كان منزعجاً جداً من الغرور الأميركي أو عنجهية اليانكي! وقد قال مرة لتشرشل: قل لروزفيلت بأني افقر من أن انحني مذلولاً أمام الأميركان!
ويبدو ان روزفيلت كان يريد القضاء على القدرة الصناعية لفرنسا وتحويلها الى دولة تابعة للعالم الانغلوساكسوني، بل وكان يعاملها على أساس انها دولة مهزومة في الحرب مثل ألمانيا وايطاليا.
وهذا ما كان يجعل ديغول يستشيط غضباً ويخرج عن طوره، فقد كان مفعماً بالامجاد الفرنسية ولا يقبل اطلاقاً بأن يعامل أحد فرنسا وكأنها دولة ثانوية كان يشعر بأن كل عظمة فرنسا تتجسد في شخصه، ولذلك رفض ان ينحني أمام الأميركان وحصلت له مشاكل كثيرة معهم بعد الحرب العالمية الثانية، وتحداهم أكثر من مرة أثناء الحرب الباردة، بل وخرج من حلف الأطلسي أو من إحدى هيئاته الأساسية وراح يتقارب مع الاتحاد السوفييتي ويعترف بالصين.
وأما روزفيلت فقد رد عليه بالصاع صاعين، وحاول إهانته اكثر من مرة، وكان يعتبره ديكتاتورياً مقبلاً أو شخصاً انتهازياً على الأقل، ولكنه كان مخطئاً فقد اتبع ديغول بعد الحرب سياسة ديمقراطية تجاه الشعب الفرنسي، وكان أول قرار اتخذه هو إعطاء حق التصويت للنساء: أي لنصف الشعب ومعلوم ان المرأة الفرنسية كانت محرومة من هذا الحق سابقاً.
ثم أسس ديغول الضمان الاجتماعي للفرنسيين الفقراء والمتوسطي الحال، وهذا من أكبر انجازاته، بالإضافة إلى تصويت المرأة ثم قام ببعض التأميمات لصالح العمال والطبقات الشعبية.
وعلى الرغم من كل ما فعله لفرنسا منذ تحريرها من الاحتلال النازي إلا أن الأحزاب السياسية تآمرت عليه فاضطر الى ترك السلطة عام 1946، أو قل أنه لم يضطر الى ذلك وانما استقال من تلقاء نفسه عندما شعر بأنه لا يستطيع ان يحكم البلاد كما يريد.
وبما أنه اكبر من الحكم ولا يستمد قيمته الشخصية من كرسي السلطة فإنه تخلى عنه بكل شموخ وكبرياء وعاد الى قريته في كولوملبي لودو زيغليز.
ثم توالت على الحكم بعده عدة وزارات في ظل النظام المدعو بالجمهورية الرابعة، وكان النظام مضطرباً وغير مستقر لان الحكومة تتغير فيه كل سنة وأحياناً كل بضعة أشهر.
وبعدئذ اندلعت الأزمة الجزائرية وراحت الحكومات الفرنسية المتعاقبة تتخبط في طريقة حلها أو كيفية مواجهتها وفشل الاشتراكيون بقيادة غي موليه في تهدئة الأوضاع، وبعد ان فلتت الأمور من أيديهم لم يجدوا بداً من اللجوء الى الجنرال ديغول، فذهبوا اليه في قريته الصغيرة لإقناعه بالعودة الى الحكم، وبعد تردد طويل فهم ان البلاد بحاجة اليه مرة أخرى لإنقاذها من خطر محدق.
ولذلك قبل بالعودة الى سدة السلطة حيث استقبله رئيس الجمهورية رينيه كوتي بهذه الكلمات: الآن أصبح أول الفرنسيين رئيساً لفرنسا، وسلمت له فرنسا قيادها لكي يخرجها من المستنقع الجزائري الذي غرقت فيه.
وبما أنه رجل تاريخي وذو حدس بعيد المدى فإنه فهم بعد فترة قصيرة بأن الحل لن يكون إلا باستقلال الجزائر وخروج فرنسا منها، وكان حلاً صعباً على الفرنسيين لانهم تعودوا على الإقامة هناك منذ قرن ونصف تقريباً، وكان هناك شخص واحد قادر على اقناعهم بقبول هذا الحل الذي هو أصعب عليهم من تجرع السم الزعاف، الجنرال ديغول.
ومع ذلك فقد اتهمه اليمين المتطرف بالخيانة العظمى، وحاول اغتياله ثلاث مرات كاد ان ينجح في احداها لولا ان العناية الآلهية نجته منهم، وهكذا استطاع ان يوقع في نهاية المطاف قرار استقلال الجزائر مع أعضاء جبهة التحرير الوطني الجزائري، وبعدئذ ابتدأت صفحة جديدة في تاريخ الجزائر وتاريخ فرنسا على حد سواء.
لقد ولد ديغول في مدينة "ليل" عاصمة الشمال الفرنسي في عائلة كاثوليكية محافظة، مثقفة، فأبوه هنري ديغول كان استاذ تاريخ وأدب في المدارس الخاصة، وقد عرفه على كبار كتاب فرنسا من امثال باريسي، وبيرغسون وشارل بيغي وأخرين.
ثم اختار ديغول المهنة العسكرية وتخرج ضابطاً من كلية سان سير الشهيرة عام 1912، أي في سن الثانية والعشرين، وقد شارك بعدئذ في الحرب العالمية الأولى وجرح في الحرب عام 1914، وتشاء الأقدار ان يكون رئيسه المباشر آنذاك الجنرال فيليب بيتان الذي سيصبح عدوه الأول أثناء الحرب العالمية الثانية لأنه تحالف مع الألمان وقبل احتلالهم لفرنسا على عكس ديغول.
ثم أسر في الحرب عام 1916 من قبل الألمان وظل في الأسر سنتان ونصف، أي حتى نهاية الحرب وتحقيق الهدنة بين فرنسا وألمانيا، وكانت تجربة الأسر مريرة بالنسبة له لانه شعر بعدم القدرة على خدمة بلاده عندما كانت المعارك تشتعل ضاربة.
والواقع أنه حاول ان يهرب من الأسر خمس مرات ولكنه كان يفشل في كل مرة بسبب طول قامته، فقد كانوا يعرفونه ويكتشفونه فوراً لأنه أطول رجل في المعسكر، وقد منحوه وسام الشرف بعد انتهاء الحرب نظراً لبطولته وتضحياته في ساحة الوغى.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية كان ديغول قد أصبح عقيداً في الجيش الفرنسي وقائداً لاحدى سرايا المدفعية ولكنهم رفعوه فوراً الى رتبة جنرال وأعطوه قيادة أكبر فرقة عسكرية في الجيش لكي يعيد الهجوم الألماني على باريس.
ولكنه لم ينجح في ذلك بسبب قوة الهجوم الألماني الذي اخترق خط ماجينو، نقول ذلك على الرغم من شجاعته ومخاطرته بنفسه أثناء المعارك، ونظراً لذلك فقد عينوه وزيراً في الحكومة في تلك الفترة العصيبة، ولكنه رفض معاهدة الهدنة أو الاستسلام للألمان، وغادر فرنسا سراً في اللحظة التي استلم فيها الماريشال بيتان السلطة. وذهب ديغول الى عند تشرشل في لندن لمقاومة النازية.
ثم دخل التاريخ يوم 18 يونيو من عام 1940 عندما وجه نداءه الشهير الى الشعب الفرنسي قائلاً : »أيها الفرنسيون لقد خسرنا معركة ولكننا لم نخسر الحرب وسوف نناضل حتى نحرر بلدنا الحبيب من نير الاحتلال الجاثم على صدره«.
وهناك في لندن راح الجنرال ديغول يشكل في المنفى حكومة فرنسا الحرة، وهكذا أصبحت لفرنسا حكومتان: الأولى برئاسة الماريشال بيتان ومقرها في مدينة »فيشي« وهي عميلة للألمان.
والثانية في المنفى الانجليزي برئاسة ديغول وهي مضادة لأي تعامل مع المحتل، وعندئذ انقسمت فرنسا الى قسمين قسم مد يداً للمارشال وقسم مؤيد للجنرال، وسوف ينعكس ذلك على تاريخ فرنسا اللاحق كله.
والانكي من ذلك هو ان الماريشال بيتان رئيس الحكومة العميلة راح ينظم محاكمة غيابية لديغول بتهمة الخيانة العظمى! وقد حكموا عليه بالإعدام غيابياً، ونلاحظ ان الأمور سوف تنعكس بعد ذلك بأربع سنوات عندما يعود ديغول ظافراً الى البلاد ومحرراً لباريس، وعندئذ راح هو الذي يتهم بيتان بالخيانة العظمى ويحكم عليه بالاعدام ولكن دون تنفيذ الحكم نظراً لكبر سنة، فقد كان قد تجاوز التسعين.
وفي أثناء الحرب اتفق ديغول مع تشرشل على ان يدفع له هذا الأخير مبالغ ضخمة من أجل تسيير حكومته في المنفى وتنظيم أعمال المقاومة في الداخل، واشترط عليه ان يفعل ذلك على سبيل الدين لا على سبيل الهبات والكرم الحاتمي لكيلا تقيد حريته في الحركة.
وبالفعل فقد رد ديغول كل ديونه حتى قبل انتهاء الحرب
والواقع ان ديغول كان متشدداً جداً فيما يخص المبادىء، ولم يكن يساوم على الشرف الوطني أو الاستقلال الذاتي أو المبادىء العليا، ويبدو ان علاقاته مع تشرشل في تلك الفترة العصيبة من التاريخ شهدت بعض التأزمات والصراعات أحياناً، فكلاهما كان عملاقاً من الناحية السياسية والتاريخية، ولم يكن من السهل على ديغول ان يخضع لتشرشل حتى لو كان مقيماً عنده.
وفي احدى المرات صرخ تشرشل في وجهه قائلاً: ولكنك لست فرنسا كلها يا ديغول! انت تمثل فرنسا المقاومة، أما فرنسا الأخرى فيمثلها غيرك.
فرد عليه ديغول فوراً: أنا اتحرك باسم فرنسا، وأناضل باسم فرنسا كلها، وأنا أقاوم النازية الى جانب انجلترا ولكن ليس لصالح انجلترا، أنا اتحدث باسم فرنسا ولست مسؤولاً أمام أحد غيرها!
وعندئذ رد عليه تشرشل قائلاًَ: كنت آمل ان نحارب جنباً الى جنب ولكن أملي خاب بكلامك، فقد فهمت انك قادر ليس فقط على محاربة المانيا وايطاليا واليابان وانما ايضاً انجلترا واميركا!
فرد عليه ديغول: آخذ كلامك على سبيل المزاح لا الجد، ولو عرفت انك جاد لغضبت منك غضباً شديداً، فلو كان هناك شخص على وجه الأرض مفيد لانجلترا لكنت أنا هذا الشخص.
وانتهى النقاش عند هذا الحد بين أكبر شخصيتين أثناء الحرب العالمية الثانية.
أما علاقات ديغول مع روزفيلت فكانت أكثر تعقيداً لأن الرئيس الأميركي لم يكن يثق بديغول وكانا يحتقران بعضهما البعض على عكس تشرشل، والواقع ان ديغول كان منزعجاً جداً من الغرور الأميركي أو عنجهية اليانكي! وقد قال مرة لتشرشل: قل لروزفيلت بأني افقر من أن انحني مذلولاً أمام الأميركان!
ويبدو ان روزفيلت كان يريد القضاء على القدرة الصناعية لفرنسا وتحويلها الى دولة تابعة للعالم الانغلوساكسوني، بل وكان يعاملها على أساس انها دولة مهزومة في الحرب مثل ألمانيا وايطاليا.
وهذا ما كان يجعل ديغول يستشيط غضباً ويخرج عن طوره، فقد كان مفعماً بالامجاد الفرنسية ولا يقبل اطلاقاً بأن يعامل أحد فرنسا وكأنها دولة ثانوية كان يشعر بأن كل عظمة فرنسا تتجسد في شخصه، ولذلك رفض ان ينحني أمام الأميركان وحصلت له مشاكل كثيرة معهم بعد الحرب العالمية الثانية، وتحداهم أكثر من مرة أثناء الحرب الباردة، بل وخرج من حلف الأطلسي أو من إحدى هيئاته الأساسية وراح يتقارب مع الاتحاد السوفييتي ويعترف بالصين.
وأما روزفيلت فقد رد عليه بالصاع صاعين، وحاول إهانته اكثر من مرة، وكان يعتبره ديكتاتورياً مقبلاً أو شخصاً انتهازياً على الأقل، ولكنه كان مخطئاً فقد اتبع ديغول بعد الحرب سياسة ديمقراطية تجاه الشعب الفرنسي، وكان أول قرار اتخذه هو إعطاء حق التصويت للنساء: أي لنصف الشعب ومعلوم ان المرأة الفرنسية كانت محرومة من هذا الحق سابقاً.
ثم أسس ديغول الضمان الاجتماعي للفرنسيين الفقراء والمتوسطي الحال، وهذا من أكبر انجازاته، بالإضافة إلى تصويت المرأة ثم قام ببعض التأميمات لصالح العمال والطبقات الشعبية.
وعلى الرغم من كل ما فعله لفرنسا منذ تحريرها من الاحتلال النازي إلا أن الأحزاب السياسية تآمرت عليه فاضطر الى ترك السلطة عام 1946، أو قل أنه لم يضطر الى ذلك وانما استقال من تلقاء نفسه عندما شعر بأنه لا يستطيع ان يحكم البلاد كما يريد.
وبما أنه اكبر من الحكم ولا يستمد قيمته الشخصية من كرسي السلطة فإنه تخلى عنه بكل شموخ وكبرياء وعاد الى قريته في كولوملبي لودو زيغليز.
ثم توالت على الحكم بعده عدة وزارات في ظل النظام المدعو بالجمهورية الرابعة، وكان النظام مضطرباً وغير مستقر لان الحكومة تتغير فيه كل سنة وأحياناً كل بضعة أشهر.
وبعدئذ اندلعت الأزمة الجزائرية وراحت الحكومات الفرنسية المتعاقبة تتخبط في طريقة حلها أو كيفية مواجهتها وفشل الاشتراكيون بقيادة غي موليه في تهدئة الأوضاع، وبعد ان فلتت الأمور من أيديهم لم يجدوا بداً من اللجوء الى الجنرال ديغول، فذهبوا اليه في قريته الصغيرة لإقناعه بالعودة الى الحكم، وبعد تردد طويل فهم ان البلاد بحاجة اليه مرة أخرى لإنقاذها من خطر محدق.
ولذلك قبل بالعودة الى سدة السلطة حيث استقبله رئيس الجمهورية رينيه كوتي بهذه الكلمات: الآن أصبح أول الفرنسيين رئيساً لفرنسا، وسلمت له فرنسا قيادها لكي يخرجها من المستنقع الجزائري الذي غرقت فيه.
وبما أنه رجل تاريخي وذو حدس بعيد المدى فإنه فهم بعد فترة قصيرة بأن الحل لن يكون إلا باستقلال الجزائر وخروج فرنسا منها، وكان حلاً صعباً على الفرنسيين لانهم تعودوا على الإقامة هناك منذ قرن ونصف تقريباً، وكان هناك شخص واحد قادر على اقناعهم بقبول هذا الحل الذي هو أصعب عليهم من تجرع السم الزعاف، الجنرال ديغول.
ومع ذلك فقد اتهمه اليمين المتطرف بالخيانة العظمى، وحاول اغتياله ثلاث مرات كاد ان ينجح في احداها لولا ان العناية الآلهية نجته منهم، وهكذا استطاع ان يوقع في نهاية المطاف قرار استقلال الجزائر مع أعضاء جبهة التحرير الوطني الجزائري، وبعدئذ ابتدأت صفحة جديدة في تاريخ الجزائر وتاريخ فرنسا على حد سواء.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى