السلطان محمد الفاتح
صفحة 1 من اصل 1
السلطان محمد الفاتح
السلطان محمد الفاتح
المقدمة :
شاءت الأقدار أن يكون السلطان العثماني محمد الفاتح هو صاحب البشارة التي بشّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: "لتَفْتَحُنّ القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش" وانتظر المسلمون ثمانية قرون ونصف قرن حتى تحققت البشارة، وفُتحت القسطنطينية بعد محاولات جادة بدأت منذ عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
هو السلطان محمد الثاني 431هـ- 1481م ، يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات. حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً كانت خيراً وعزة للمسلمين[1]. تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في 16 محرم عام 855هـ الموافق 18 فبراير عام 1451م وكان عمره آنذاك 22 سنة ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيراً في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية. وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيراً بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف. وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر. وعمل على تطوير إدارة الأقاليم وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم وعزل من ظهر منه تقصيراً أو إهمال وطور البلاط السلطاني وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام وبعد أن قطع أشواطاً مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل انه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية[2].
أولاً: فتح القسطنطينية
تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية، وقد أسست في عام 330م على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول[3]، وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها: " لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها "[4]، ومنذ تأسيسها فقد اتخذها البيزنطيون عاصمة لهم وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها[5] عندما دخل المسلمون في جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع، ولذلك فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتحها في عدة مواقف، من ذلك: ما حدث أثناء غزوة الخندق[6]، ولهذا فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعاً في أن يتحقق فيهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش[7].
لذلك فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى الحملات الإسلامية عليها سنة 44هـ ولم تنجح هذه الحملة، وقد تكررت حملات أخرى في عهده حظيت بنفس النتيجة.
كما قامت الدولة الأموية بمحاولة أخرى لفتح القسطنطينية وتعد هذه الحملة أقوى الحملات الأموية عليها، وهي تلك الحملة التي تمت في أيام سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ[8].
واستمرت المحاولة لفتح القسطنطينية حيث شهد العصر العباسي الأول حملات جهادية مكثفة ضد الدولة البيزنطية، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى القسطنطينية نفسها وتهديدها مع أنها هزتها وأثرت على الأحداث داخلها، وبخاصة تلك الحملة التي تمت في أيام هارون الرشيد[9] سنة 190هـ.
وقد قامت فيما بعد عدة دويلات إسلامية في آسيا الصغرى كان من أهمها دولة السلاجقة، التي امتدت سلطتها إلى آسيا الصغرى. كما أن زعيمها ألب أرسلان 455- 465هـ / 1063-1072م استطاع أن يهزم امبراطور الروم ديمونوس في موقعة ملاذ كرد عام 464هـ/1070م ثم أسره وضربه وسجنه وبعد مدة أطلق سراحه بعد أن تعهد بدفع جزية سنوية للسلطان السلجوقي، وهذا يمثل خضوع جزء كبير من امبراطورية الروم للدولة الإسلامية السلجوقية وبعد ضعف دولة السلاجقة الكبرى ظهرت عدة دول سلجوقية كان منها دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى والتي استطاعت مد سلطتها إلى سواحل بحر إيجة غربا وإضعاف الامبراطورية الرومانية.
وفي مطلع القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي خلف العثمانيون سلاجقة الروم[10] وتجددت المحاولات الإسلامية لفتح القسطنطينية وكانت البداية حين جرت محاولة لفتحها في أيام السلطان بايزيد " الصاعقة " الذي تمكنت قواته من محاصرتها بقوة سنة 796هـ - 1393م[11]، وأخذ السلطان يفاوض الإمبراطور البيزنطي لتسليم المدينة سلماً إلى المسلمين، ولكنه أخذ يراوغ ويماطل ويحاول طلب المساعدات الأوربية لصد الهجوم الاسلامي عن القسطنطينية، وفي الوقت نفسه وصلت جيوش المغول يقودها تيمورلنك إلى داخل الأراضي العثمانية وأخذت تعيث فسادا، فاضطر السلطان بايزيد لسحب قواته وفك الحصار عن القسطنطينية لمواجهة المغول بنفسه ومعه بقية القوات العثمانية، حيث دارت بين الطرفين معركة أنقرة الشهيرة، والتي أسر فيها بايزيد الصاعقة ثم مات بعد ذلك في الأسر سنة 1402م[12] وكان نتيجة ذلك ان تفككت الدولة العثمانية مؤقتا، وتوقف التفكير في فتح القسطنطينية إلى حين.
وما أن استقرت الأحوال في الدولة حتى عادت روح الجهاد من جديد ، ففي أيام السلطان مراد الثاني الذي تولى الحكم في الفترة
824هـ-863هـ/ 1421-1451م جرت عدة محاولات لفتح القسطنطينية وتمكنت جيوش العثمانيين في أيامه من محاصرتها أكثرة من مرة ، وكان الإمبراطور البيزنطي في أثناء تلك المحاولات يعمل على إيقاع الفتنة في صفوف العثمانيين بدعم الخارجين على السلطان[13]، وبهذه الطريقة نجح في إشغاله في هدفه الذي حرص عليه ، فلم يتمكن العثمانيون من تحقيق ما كانوا يطمحون إليه إلا في زمن ابنه محمد الفاتح فيما بعد .
كان محمد الفاتح يمارس الأعمال السلطانية في حياة ابيه ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع الدولة البيزنطية في الظروف المختلفة، كما كان على اطلاع تام بالمحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة، وبالتالي فمنذ أن ولى السلطنة العثمانية سنة 855هـ الموافق 1451هـ م[14] كان يتطلع إلى فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب الإسلام والإيمان والعمل بالقرآن وسنة سيد الأنام ولذلك نشأ على حب الإلتزام بالشريعة الإسلامية، واتصف بالتقى والورع، ومحبا للعلم والعلماء ومشجعا على نشر العلوم ويعود تدينه الرفيع للتربية الإسلامية الرشيدة التي تلقها منذ الصغر ، بتوجيهات من والده ، وجهود الشخصيات العلمية القوية التي أشرفت على تربيته، وصفاء أولئك الأساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لأنفسهم ، ممن أشرفوا
على رعايته[15].
لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم العالم الرباني "أحمد بن إسماعيل الكوراني" مشهودا له بالفضيلة التامة، وكان مدرسه في عهد السلطان "مراد الثاني" والد "الفاتح". وفي ذلك الوقت كان محمد الثاني -الفاتح- ، أميرا في بلدة "مغنيسيا" وقد أرسل إليه والده عددا من المعلمين ولم يمتثل أمرهم ، ولم يقرأ شيئا ، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم ، فطلب السلطان المذكور ، رجلا له مهابة وحدّة ، فذكروا له المولى "الكوراني" ، فجعله معلما لولده وأعطاه قضيبا يضربه بذلك إذا خالف أمره . فذهب إليه، فدخل عليه والقضيب بيده، فقال: أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري، فضحك السلطان محمد خان من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضربا شديداً، حتى خاف منه السلطان محمد خان، وختم القرآن في مدة يسيرة. . ."[16].
هذه التربية الإسلامية الصادقة، وهؤلاء المربون الأفاضل، ممن كان منهم بالأخص هذا العالم الفاضل، ممن يمزق الأمر السلطاني إذا وجد به مخالفة للشرع أو لا ينحني للسلطان، ويخاطبه باسم، ويصافحه ولا يقبل يده، بل السلطان يقبل يده. من الطبيعي أن يتخرج من بين جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح، وأن يكون مسلماً مؤمناً ملتزماً بحدود الشريعة، مقيد بالأوامر والنواهي معظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها على نفسه أولاً ثم على رعيته، تقياً صالحاً يطلب الدعاء من العلماء العاملين الصالحين[17].
وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح وبث فيه منذ صغره أمرين هما:
1- مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.
2- الإيحاء دوماً لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش [18] لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور)[19].
ثانياً: الإعداد للفتح:
بذل السلطان محمد الثاني جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية، وبذل في ذلك جهوداً كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون مجاهد[20] وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للعملية الجهادية المنتظرة كما أعتنى الفاتح بإعدادهم إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر الله.
وقد اعتنى السلطان بإقامة قلعة روملي حصار في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد به إلا أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور إلى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة[21].
أ- اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة:
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى أوربان كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها[22].
ب- الاهتمام بالأسطول:
ويضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة[23].
ج- عقد معاهدات:
كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة غلطة المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بيهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع المجد والبندقية وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية[24] مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين.
في هذه الأثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح استمات الإمبراطور البيزنطي في محاولاته لثنيه عن هدفه، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه، وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره[25] ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه الأمور عن هدفه، ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي، في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد وقد أضطر الإمبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له، في الوقت الذي لم يكن الأرثوذكس يرغبون في ذلك، وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب منه إلى القسطنطينية، خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، مما أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال بعض زعماء الأرثوذكس : إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية [26].
ثانياً: الهجوم:
كان القسطنطينية محاطة بالمياة البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور ، وبحر مرمرة ، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، بالإضافة إلى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة الى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدماً وعليه أبراج يصل ارتفاعها الى 60 قدماً ، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند[27]، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها[28]، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها الى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة الى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه الى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م ، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة ، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، ومافي فتحها من عز للإسلام والمسلمين ، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء[29].
صورة توضح خريطة القسطنطينية
وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين معهم مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب[30].
وفي اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن أهمها المدفع السلطاني العملاق الذي أقيم أمام باب طب قابي ، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة، وفي نفس الوقت انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها لم تستطع الوصول الى القرن الذهبي بسبب وجود السلسلة الضخمة التي منعت أي سفينة من دخوله بل وتدمر كل سفينة تحاول الدنو والاقتراب، واستطاع الاسطول العثماني أن تستولي على جزر الامراء في بحر مرمرة[31].
وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، واحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة، ولم يخلوا الامر من وقوع قتال بين العثمانيين المهاجمين والبيزنطيين المدافعين منذ الايام الأولى للحصار، وفتحت أبواب الشهادة وفاز عدد كبير من العثمانيين بها خصوصاً من الأفراد الموكلين بالاقتراب من الابواب.
وكانت المدفعية العثمانية تطلق مدافعها من مواقع مختلفة نحو المدينة ، وكان لقذائفها ولصوتها الرهيب دور كبير في إيقاع الرعب في قلوب البيزنطيين وقد تمكنت من تحطيم بعض الأسوار حول المدينة، ولكن المدافعين كانوا سرعان ما يعيدون بناء الأسوار وترميمها.
ولم تنقطع المساعدات المسيحية من أوروبا ووصلت إمدادات من جنوة مكونة من خمس سفن وكان يقودها القائد الجنوي جوستنيان يرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروبية متعددة واستطاعت سفنهم أن تصل الى العاصمة البيزنطية العتيقة بعد مواجهة بحرية مع السفن العثمانية المحاصرة للمدينة وكان لوصول هذه القوة أثر كبير في رفع معنويات البيزنطيين، وقد عين قائدها جستيان قائداً للقوات المدافعة عن المدينة[32].
وقد حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلسلة الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه، وأطلقوا سهامهم على السفن الأوروبية والبيزنطية ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم في البداية وارتفعت الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة[33].
ولم يكل القس ورجال الدين النصارى، فكانوا يطوفون بشوارع المدينة، وأماكن التحصين ويحرضون المسيحيين على الثبات والصبر، ويشجعون الناس على الذهاب الى الكنائس ودعاء المسيح والسيدة العذراء أن يخلصوا المدينة، وأخذ الامبراطور قسطنطين يتردد بنفسه على كنيسة أيا صوفيا لهذا الهدف[34].
ثالثاً: مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين:
استبسل العثمانيون المهاجمون على المدينة وعلى رأسهم محمد الفاتح وصمد البيزنطيون بقيادة قسطنطين صموداً بطولياً في الدفاع وحاول الإمبراطور البيزنطي أن يخلص مدينته وشعبه بكل ما يستطيع من حيلة، فقدم عروضاً مختلفة للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال أو الطاعة، أو غير ذلك من العروض التي قدمها ، ولكن الفاتح رحمه الله يرد بالمقابل طالباً تسليم المدينة تسليماً[35]، وأنه في هذه الحالة لن يتعرض أحد من أهلها ولا كنائسها للأذى، وكان مضمون الرسالة: فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحد في نفسه وماله وعرضه ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام ومن شاء رحل عنها حيث اراد في أمن وسلام أيضاً[36].
كان الحصار لايزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في ايدي البحرية البيزنطية، ومع ذلك فإن الهجوم العثماني كان مستمراً دون هوادة حيث أظهر جنود الانكشارية شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي، وفي يوم 18 أبريل[37] تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند وادي ليكوس في الجزء الغربي من الأسوار ، فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حاولوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، واشتد القتال بين الطرفين ، وكانت الثغرة ضيفة وكثرة السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين،ومع ضيق المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة اخرى للهجوم[38].
وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة عنه، ولكن السفن البيزنطية والأوروبية المشتركة، إضافة الى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج، استطاعوا جميعاً من صد السفن الاسلامية وتدمير بعضها، فاضطرت بقية السفن الى العودة بعد أن فشلت في تحقيق مهمتها[39].
رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح:
بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة اخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول الى الخليج، حيث بذلت السفن الإسلامية جهوداً كبيرة لمنعها ، وأشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل إلى قائد الأسطول وقال له: إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، وإذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً[40] لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول إلى هدفها ولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، رغم الجهود العظيمة المبذولة لذلك وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الاسطول[41] بعد ما رجع إلى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الاسطول بالطه أوغلي وعنفه واتهمه بالجبن، وتأثر بالطة أوغلي لهذا وقال : إني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أن أموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة. لقد قاتلت انا ورجالي بكل ماكان في وسعنا من حيلة وقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة[42].
أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قد أعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا[43].
لقد ذكرت كتب التاريخ أن السلطان محمد الفاتح كان يراقب هذه المعارك البحرية وهو على جواده وقد اندفع نحو البحر حتى غاص حصانه الى صدره وكانت السفن المتقاتلة على مرمى حجر منه فأخذ يصيح لبطله أوغلي بأعلى صوته: ياقبطان! ياقبطان! ويلوح له بيده، وضاعف العثمانيون جهودهم في الهجوم دون أن يؤثروا في السفن تأثيراً ليناً[44].
كانت الهزائم البحرية للأسطول العثماني دور كبير في محاولة بعض مستشاري السلطان وعلى رأسهم الوزير خليل باشا اقتناعه بالعدول عن الاستيلاء على القسطنطينية والرضا بمصالحة أهلها دون السيطرة عليها وبالتالي رفع الحصار عنها، ولكن السلطان أصر على محاولة الفتح واستمر في قصف دفاعات المدينة بالمدافع من كل جانب ، وفي الوقت نفسه كان يفكر بجدية في إدخال السفن الإسلامية إلى القرن الذهبي ، خصوصاً وأن الأسوار من ناحية القرن الذهبي متهاوية، وبالتالي سيضطر البيزنطيون إلى سحب بعض قواتهم المدافعة عن الاسوار الغربية من المدينة وبهذا التفريق للقوات المدافعة ستتهيأ فرصة أكبر في الهجوم على تلك الأسوار بعد أن ينقص عدد المدافعين عنها[45].
خامساً: عبقرية حربية فذة:
لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن حي غلطة خوفاً على سفنه من الجنوبيين، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.
جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، وأعربوا عن إعجابهم بها.
بدأ تنفيذ الخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة، الا أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن[46].
وجرت السفن من البسفور إلى البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال ، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك ، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته[47].
كان هذا العمل عظيماً بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل معجزة من المعجزات ، تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ، مما يدل على عقلية العثمانيين الممتازة، ومهارتهم الفائقة وهمتهم العظيمة. لقد دهش الروم دهشة كبرى عندما علموا بها، فما كان أحد ليستطيع تصديق ماتم. لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطة الباهرة.
ولقد كان منظر هذه السفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب البحر من أعجب المناظر وأكثرها إثارة ودهشة. ويرجع الفضل في ذلك الى الله سبحانه وتعالى ثم إلى همة السلطان وذكاءه المفرط، وعقليته الجبارة ، والى مقدرة المهندسين العثمانيين، وتوفر الايدي العاملة التي قامت بتنفيذ ذلك المشروع الضخم بحماس ونشاط.
وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية، وهتافاتهم المتصاعدة، وأناشيدهم الإيمانية العالية[48]، في القرن الذهبي، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين[49]، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الأسكندر الأكبر[50].
ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة"[51] وكان لوجود السفن الاسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار ، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى[52].
وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولته المستميته كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط والمحاولات.
واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع، وحاولوا تسلَّق أسوارها، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم مايتهدم من أسوار مدينتهم ورد المحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتعبهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس[53].
كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً[54].
الخاتمة :
وما يحسب للخليفة العثماني أنه سخر أموال الدولة العثمانية لنصرة الجيش وتجهيزه بالمأن والذخائر اللازمه لفتح القستنطينية بأسهل الطرق وبناء القلاع للتجهيز للفتح العظيم ، ولو استمر الخلفاء العثمانيين من بعده على نهجه بحرصه وايمانه بالفتوحات وأهميتها للأمة الاسلامية لما سقطت هذه الدولة العظيمة.
مواضيع مماثلة
» نغمة ملحنها محمد عبد الوهاب
» ديوان محمد العيد آل خليفة
» ابتهالات للشيخ محمد عمران
» السر في اسم " محمد صلى الله عليه وسلم"..؟؟
» اسم النبي محمد يتوسط قارات العالم
» ديوان محمد العيد آل خليفة
» ابتهالات للشيخ محمد عمران
» السر في اسم " محمد صلى الله عليه وسلم"..؟؟
» اسم النبي محمد يتوسط قارات العالم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى