الطفل وتنميته في المجتمع؟؟؟؟
صفحة 1 من اصل 1
الطفل وتنميته في المجتمع؟؟؟؟
الطفل وتنمية الثقة بالنفس
* د. بركات محمد مراد
تقدير الذات، من الحاجات التي يؤكد عليها العالم "فاسلو" في تصنيفه الهرمي للحاجات. فالحاجة إلى تقدير الذات ترتبط بإقامة علاقات مشبعة مع الذات ومع الآخرين، والتي تتمثل في أن يكون الفرد متمتعاً بالتقبل والتقدير كشخص يحظى بإحترام الذات، وأن يكون محترماً وله مكانة بين الناس، وأن يتجنب الرفض وعدم الإستحسان من قِبَل الآخرين.
كما يفترض العالم "روجرز" أن كل فرد لديه حاجة إلى تقدير ذاته على نحو موجب، وإنطلاقاً من اتساقه مع توجهه، فقد عرّف المرض النفسي بأنّه إخفاق الفرد في تقديره لذاته بصورة إيجابية، أو تفاوت مفرط بين مفهوم الذات المُدرك ومفهوم الذات المثالية، ونظراً لنمو مفهوم الذات من خلال إدراك المرء لتقييم الآخرين له فإن مرض الفرد نفسيّاً أو عقليّاً، أو إخفاقه في تحقيق ذاته يرجعان بصورة أساسية إلى إخفاقه في الحصول على تقدير إيجابي من قِبَل الآخرين.
وتنشأ فكرة الفرد عن ذاته وتقديره لها من خلال تفاعله مع الآخرين ووعيه لأحكامهم وإدراكه لهم. فالنمو الطبيعي للشخصية يقوم على التقدير الإيجابي للفرد من قِبَل الآخرين، فإذا تلقى الفرد تقديراً إيجابياً وغير مشروط من الأشخاص المهمين في حياته (الأب، الأُم، المعلم...) على سلوكه، فسوف تنمو لديه شخصية سوية، وينعكس ذلك على تقديره لذاته وتقدير المجتمع له. فالشروط التي تجعل الآخرين (ذوي الأهمية) يقدرون الشخص تقديراً إيجابياً تستدمج في بنية الذات، وفيما بعد ينبغي عليه أن يسلك وفقاً لهذه الشروط لكي يقدر ذاته بشكل إيجابي.
ويؤكد الدكتور "جرينسبان" (Stanley Greenspan) وهو معالج نفسي في جامعة جورج واشنطن بأنّ الأطفال يندرجون تحت خمسة أنماط من الشخصية، والتي يشارك في صنعها عوامل وراثية جينية وأخرى بيئية مكتسبة، وهي:
1- الطفل الحسّاس والخائف جدّاً.
2- الطفل عديم الخوف.
3- الطفل العنيد.
4- الطفل المنسحب، والذي يندس دائماً بين خيالاته.
5- الطفل الشارد، والذي يصعب عليه معالجة المعلومات التي تصل إليه.
إنّ الآباء الحريصين يستطيعون تطويع أسلوب تربيتهم حسب نوعية الطفل. فعند التعامل مع الطفل ذي الحسّاسية المفرطة، لابدّ أن يتصرف الأبوان بطريقة رقيقة وفي الوقت نفسه يشجعان الإستقلالية لديه، وتأكيد الذات. ولابدّ من التأكيد على جوانب القوة في شخصية الطفل وإستثمار هذه الجوانب.
فالطفل العنيد سوف يصبح أكثر عنفاً وأكثر عداءً للمجتمع إذا كبر دون أن يتمكن الأبوان من وضع حدٍّ لذلك، لكن الصورة قد تتغير إذا تمكن الأبوان من توفير فرص للطفل لتفريغ طاقته الجسمية ضمن ضوابط محدودة. وعند التعامل مع هذه النوعية من الأطفال، ليس من المنطق أن يطلب منه الجلوس بهدوء، حتى ينهي طعامه، لكن في الوقت نفسه لا يسمح له بالتحرش بالأطفال الآخرين. ويقترح الدكتور "جرينسبان" أن يقوم الأبوان بسؤال الطفل عن سبب قيامه بتنفيذ كل ما يعن له. وفي حالة كان الطفل سلبيّاً يستطيع والداه بلطف أن يسحباه منها دون إصابة ذاته الداخلية بالأذى، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إصطناع الألعاب التعاونية والتي تحتاج إلى تفاعل مع الآخرين. أمّا بالنسبة للطفل الشارد والذي لا يستطيع التركيز على موضوع معيّن، يمكن الإستعانة بالموضوعات المصورة ويطلب منه أن يتحدث عن محتواها.
ولا شك أنّه في عصرنا الراهن يعاني كثير من الأفراد من فقدان الثقة بالنفس نظراً لما يمتاز به عصرنا من سرعة التغير المتلاحق، وعجز الإنسان بإمكاناته المتاحة عن بلوغ أهدافه وطموحاته، والشعور بفقدان الثقة بالذات يولد الشعور بالنقص والدونية. ومن المظاهر السلوكية لفقدان الثقة بالذات التردد والتذبذب، حيث يجد الفرد صعوبة في الثبات على سلوك معيّن أو الإستمرار في إتّجاه خاص فتراه يقدم خطوة ويؤخر أخرى، أو يقبل ويتراجع، ويجد صعوبة كبيرة في البت في الأمور وفي إتّخاذ القرارات بنفسه دون مساعدة الآخرين. كذلك فإن من يفتقر إلى الشعور بالثقة تجده يميل إلى الحياء والخجل الزائد، ولذلك يجد صعوبة في مواجهة الناس أو في التحدث أمام مجموعة، أو في مصاحبة الغرباء، كما يميل إلى العزلة.
وفاقد الثقة في نفسه يعجز عن التعبير عن ذاته أو الإفصاح عن رأيه وإتجاهه، كما أنّه يعجز عن التعبير عن قدراته مواهبه وخبراته الحقيقية، ولذلك يبدو في نظر الناس أقل كفاءة مما هو عليه في الواقع، كما يجد صعوبة في إقتحام المواقف الجديدة ويصعب عليه التكيف مع الخبرات الجديدة، كما يحدث عندما يدخل مدرسة جديدة أو يلتحق حين يكبر بالجامعة لأوّل مرّة أو ينقل إلى وظيفة جديدة، وسوف يلاحظ عليه أنّه إنسان هياب يخشى المواقف ويعمل للأمور البسيطة ألف حساب.
فإذا أردنا إستقصاء أسباب فقدان الثقة بالنفس عند الطفل والشاب، فإننا نجد أنّ الدراسات النفسية والخبرات التربوية قد دلت على أن عدم إشباع حاجات الطفل المادية أو الجسمية قد يؤدي إلى شعوره بفقدان الثقة في ذاته. كذلك فإن ما يتعرض له الطفل أو المراهق من الصد والزجر والردع كلما أراد أن يعبر عن ذاته يولد فيه فقدان الشعور بالثقة بهذه الذات.
كذلك فإنّ التلميذ المنبوذ، أي ذلك الطفل الذي لا ترغب فيه الأسرة وتشعره بالطرد والنبذ وعدم القبول أو أنّه فوق حاجة الأسرة الأساسية من الأطفال، يشعر بفقدان الثقة في ذاته. وبالمثل فإنّ الطفل الذي تحرمه الأسرة من التدرب على تحمل المسؤوليات البسيطة يشب فاقداً للثقة في قدراته وإستعداداته وذكائه العام.
ومن الأساليب التربوية الخاطئة التي تؤدي إلى فقدان الثقة بالذات: الميل إلى سب الطفل وتحقيره والتقليل من شأنه ومعايرته ومقارنته بالمتفوقين عليه من أخوته وأخواته أو زملائه أو أبناء الجيران يؤدي إلى شعوره بفقدان الثقة في ذاته. كذلك فإنّ الإكثار من فرض العقوبات على الطفل وخاصة العقاب البدني قد يؤدي إلى أن يفقد الطفل الشعور بالثقة في نفسه والرضا عنها، كذلك فإنّ إهمال الأسرة للطفل وعدم الإهتمام به قد يولد لديه الشعور بالنقص.
فإذا تساءنا: هل تفيد طرق التنشئة؟ يرد ثلاثة من العلماء وهم مؤلفو كتاب "ليس في جيناتنا" (Not in Our Genes) بالإيجاب، من حيث إنّه يصعب التفكير في سلوك إجتماعي مرتبط فقط بالتكوين الجيني دون التمكن من تعديله من خلال التشكيل الإجتماعي. كما يرد نوع آخر من العلماء بأن هذا التصور يبالغ في التفاؤل، حيث إنّ التكوين الجيني هو قدرنا وهو الذي يشكل طريقة تعاملنا مع البيئة التي نعيش فيها.
ويحسم الدكتور "جرينسبان" الأمر بأنّ الخلاف بين الموقفين قائم منذ فترة طويلة، ويعتقد بأنّ القيمة الخاصة بالتعاطف والإبتكار والشرف والحب والثقة جميعها محصلة إلى نوع وتاريخ العلاقة بين الطفل ووالديه وليس للجينات فقط. ولا شك أن تنمية الثقة بالنفس عند الطفل والشاب تبدأ من تربية الإرادة وتدريبها.
فإذا تساءلنا عن الإرادة الإنسانية التي لابدّ من الإهتمام بها وتربيتها، فإنّنا لا نجد في منظومة الدماغ البشري عضواً أو مركزاً أو موقعاً يمكن تسميته بـ(الإرادة)، لذا فهي ملكة من ملكات العقل، والعقل بمعنى الفكر، هو نتاج العمليات الفيزيولوجية والبيولوجية مجتمعة في الدماغ البشري. وهي قوة عظيمة وخارقة في النفس البشرية، بها يرتقي الإنسان إلى أقصى الدرجات، وبها أيضاً ينحدر إلى أسفل الطبقات، لأنّ الإرادة الحية والفاعلة تتحكم في السلوك والتصور والتخيل، ومن أجل نفس شجاعة وقوية ومؤثرة، لابدّ من إرادة قوية وحية وفاعلة.
لذلك فإن قوة الإرادة تعني فاعليتها وتأثيرها على مجمل السلوك الإنساني، فرديّاً كان أو جماعياً. ولا يمكن للإرادة أن تكون قوية وفاعلة إلا من خلال الوضوح في كل عمليات التفكير والإرادة والإستيعاب. فكلما اتضحت المواقف والصيرورات أمام العقل الفردي، وتوازنت قواه وعملياته، تقوت الإرادة من أجل الفعل والعمل الخلّاق والمبدع والمؤثر.
فلا يوجد عطاء إنساني أو إبداع عقلي أو إبتكار ذهني، إلا بالإرادة الفاعلة، لأنّها هي وحدها القوة المحركة والدافع المحرك لسلوك ما، أو من أجل تحقيق هدف ما، وكما يقول علماء النفس: إن لكل سلوك دافعاً، نقول: إنّ الإرادة الحية، هي التي تخلق السلوك الفعال الذي يحركه الدافع. ولا شك أن تربية الطفل، إنسانية أو ديمقراطية، تؤدي إلى شعوره بالثقة في ذاته. من ذلك إحساسه بأنّه يعامل على قدم المساواة مع إخوانه وأخواته فيما له من حقوق ما عليه من واجبات، ينمي فيه الشعور بالثقة في نفسه، كذلك فإن إحساسه بالعدل وبتكافؤ الفرص وبإحترام كيانه ينمي فيه الشعور في ذاته. ومن الوسائل التربوية الهامة إتاحة الحرِّية للطفل للتعبير عن رأيه وعن مشاعره دون صد أو زجر أو إستهزاء.
كذلك فإن إحترام الطفل وإشعاره بأنّه مقبول ومرغوب فيه والإهتمام به دون مبالغة يؤدي إلى تنمية شعوره بالثقة في ذاته، والطفل لكي يشب واثقاً من نفسه ينبغي أن تشبع حاجاته الجسمية والنفسية والإجتماعية، فيشعر بالحب والعطف والدفء والحنان، كذلك لابدّ من تدريب الطفل منذ نعومة أظفاره على تحمل المسؤوليات البسيطة التي تتفق مع قدراته وإستعداداته. وعلينا أن نقف موقفاً وسطاً في التعامل مع الطفل فلا إفراط في ممارسة القسوة والعنف عليه ورفض العقاب والصد والردع والزجر، كذلك لا ينبغي أن تتسم معاملتنا للطفل باللين الزائد والتدليل والحرِّية المطلقة وترك الحبل على الغارب والإذعان والخضوع لكافة مطالبه.
ومن هنا يمكن الإسترشاد بالتوجيهات التربوية العملية الآتية:
* تناول الوجبات معاً: من المستحسن الجلوس مع الأبناء بإنتظام والتحدث معهم كلما كان ذلك ممكناً. لأن مجرد التواصل مع الأبناء من خلال التحدث يفتح المجال لتبادل المعلومات وتعويد الطفل على التفكير المستقل وغرس الإحترام والولاء والمسؤولية. إنّ هذا المناخ يساعد الطفل على بناء الثقة بالنفس وتأكيد الذات. وكما يقول بعض العلماء أنّه بدون بناء ذات داخلية قوية ومتماسكة يجد البعض صعوبة في العطف ومساعدة الآخرين. فهل من الصعب تنظيم الوقت بصورة تتيح الفرصة لتناول الوجبات معاً سواء الغداء أو العشاء حيث تكون فيها فرصة كبيرة للتخاطب والتحاور؟
* إستغلال فترة إيواء الطفل إلى الفراش: تعد فترة الذهاب للنوم من الفترات المناسبة للقيام بمراجعة أحداث اليوم كله، حيث يشعر الطفل بالإطمئنان أكثر، فعندما يعرف الطفل بأن هناك مَن يستمع إلى أحداثه اليومية كالمشكلات التي مر بها أو الإنجازات التي حققها أو المخاوف والإرتباك الذي تعرض له سوف يحس بقيمته الذاتية وسوف يتعلم كيف يكون طيباً ومقدراً للآخرين.
* تعويد الطفل على العطاء: إنّ تعويد الطفل على المشاركة والعطاء من الخصال الهامة جدّاً التي يجب أن تشجع دائماً. فيمكن للأسرة أن تنتهج أسلوب الإشتراك بوضع حصالة منزلية يضع فيها كل فرد في الأسرة مبلغاً من المال، وفي نهاية كل شهر يعطى ما تجمع من نقود إلى المحتاجين.
* إستثمار مشاركتهم الوجدانية: لقد ثبت علمياً بأنّ الطفل نزعة للمشارعة الوجدانية، وليس أدل على ذلك من قيام الطفل بالبكاء عند رؤيته لطفل آخر يبكي، ويمكن إستثمار ذلك عندما يكبر الطفل. وينصح علماء نفس الطفل، بأن يخصص الآباء لأطفالهم عمودين يتضمنان الإجابة على الأسئلة التالية: ماذا فعلت اليوم لأجعل طفلاً آخر سعيداً؟ ماذا فعلت اليوم لأجعل طفلاً آخر تعيساً؟ ولماذا؟ وهذا التمرين مفيد جدّاً للأطفال الذين لديهم مشكلات مع الأطفال الآخرين.
* توجيه أنشطته: ساعد الطفل على الإنخراط والإلتزام بنوع واحد من الأنشطة سواء الرياضية أو الفنية والموسيقية التي تقدم في منطقة السكن، إن إنخراط الطفل بنشاط واحد من الأنشطة سوف يبني لديه حس المسؤولية والإنتماء للمجموعة.
* المساعدة على فهم وجهة نظر الآخر: من المهم على الطفل أن يفهم الأمور من وجهة نظر الآخرين، لذلك عليه أن يضع نفسه مكانهم دائماً في كل أمر، فعلى سبيل المثال: قد يحدث أن لا يصادق طفلك آخر لذلك لا يشاركه ألعابه ولا يوجه له الدعوة لحفلة عيد ميلاده، ببساطة أطلب من طفلك أن يضع نفسه مكان الطفل الآخر وانظر النتيجة.
* التحدّث معه عن نشاطه في المدرسة: لكي تبعد الطفل عن جفاف المادة العلمية والدروس التي عليه أن يحفظها، استرجع معه الأنشطة التي قام بها في المدرسة وبالأخص الأنشطة المحببة، حتى يدرك بأن دور المدرسة لا يقف عند حفظ المعلومات فقط.
* تغيير أسلوب التعامل حسب عمر الطفل: لكل مرحلة سنية أسلوب للتعامل معها، إنّ حديث الأطفال الصغار كثيراً ما يجانب الحقيقة، لكن لا يمكن أن تعده بأنّه كاذب فهو يستخدم خياله الواسع، لكن هذا لا يمنع من أن تبين له بأن ما يقوله ليس حقيقياً. وتوضح له أنّ الحقيقة أمر مطلوب. لكن الأطفال الأكبر سناً يعرفون الفرق بين الصدق والكذب ودور الوالدين هنا هو تسهيل الموقف الذي يساعدهم على تجنب الكذب بل وتشجيعهم على أن يكونوا صادقين.
* كُنْ أنموذجاً للصدق: كثيراً ما يغفل الأبوان عن حقيقة أنّ الأطفال يكتسبون كثيراً من سلوكياتهم من خلال ملاحظة تصرفات الأبوين، وليس ما يقال لهم فحسب، فإذا طلب الأب من إبنه أن يخبر زميله المتصل بالهاتف بأنّه مشغول، وهو غير ذلك، فإن أوّل فكرة سوف تخطر على بال الطفل أن أباه لا يقول الحقيقة، وهكذا لا يمتنع عليه أن يتصرف على نفس الشاكلة.
* عوِّد الطفل على القراءة بوقت مبكر: إنّ كثيراً من المفاهيم والقيم يكتسبها الطفل نتيجة لما يقرأ له من قصص في الكتب أو ما يقرأه هو من قصص تتناسب مع عمره الزمني. إنّ الأفكار والقيم التي تتضمنها هذه الكتب في هذه الفترة تكون أكثر إلتصاقاً ورسوخاً وتمثل القاعدة الأساسية لقيمه. ولا شك أنّ الإسلام يحرص على أن يوجه الطفل توجيهاً سليماً نحو ربّه وأهله وأترابه والوسط الإجتماعي الذي يعيش فيه داخل الأسرة، وخارج نطاق الأسرة، وفي المجتمع العام، حتى يطابق سلوكه أو يقارب المجتمع، ويرضاه الله.
* د. بركات محمد مراد
تقدير الذات، من الحاجات التي يؤكد عليها العالم "فاسلو" في تصنيفه الهرمي للحاجات. فالحاجة إلى تقدير الذات ترتبط بإقامة علاقات مشبعة مع الذات ومع الآخرين، والتي تتمثل في أن يكون الفرد متمتعاً بالتقبل والتقدير كشخص يحظى بإحترام الذات، وأن يكون محترماً وله مكانة بين الناس، وأن يتجنب الرفض وعدم الإستحسان من قِبَل الآخرين.
كما يفترض العالم "روجرز" أن كل فرد لديه حاجة إلى تقدير ذاته على نحو موجب، وإنطلاقاً من اتساقه مع توجهه، فقد عرّف المرض النفسي بأنّه إخفاق الفرد في تقديره لذاته بصورة إيجابية، أو تفاوت مفرط بين مفهوم الذات المُدرك ومفهوم الذات المثالية، ونظراً لنمو مفهوم الذات من خلال إدراك المرء لتقييم الآخرين له فإن مرض الفرد نفسيّاً أو عقليّاً، أو إخفاقه في تحقيق ذاته يرجعان بصورة أساسية إلى إخفاقه في الحصول على تقدير إيجابي من قِبَل الآخرين.
وتنشأ فكرة الفرد عن ذاته وتقديره لها من خلال تفاعله مع الآخرين ووعيه لأحكامهم وإدراكه لهم. فالنمو الطبيعي للشخصية يقوم على التقدير الإيجابي للفرد من قِبَل الآخرين، فإذا تلقى الفرد تقديراً إيجابياً وغير مشروط من الأشخاص المهمين في حياته (الأب، الأُم، المعلم...) على سلوكه، فسوف تنمو لديه شخصية سوية، وينعكس ذلك على تقديره لذاته وتقدير المجتمع له. فالشروط التي تجعل الآخرين (ذوي الأهمية) يقدرون الشخص تقديراً إيجابياً تستدمج في بنية الذات، وفيما بعد ينبغي عليه أن يسلك وفقاً لهذه الشروط لكي يقدر ذاته بشكل إيجابي.
ويؤكد الدكتور "جرينسبان" (Stanley Greenspan) وهو معالج نفسي في جامعة جورج واشنطن بأنّ الأطفال يندرجون تحت خمسة أنماط من الشخصية، والتي يشارك في صنعها عوامل وراثية جينية وأخرى بيئية مكتسبة، وهي:
1- الطفل الحسّاس والخائف جدّاً.
2- الطفل عديم الخوف.
3- الطفل العنيد.
4- الطفل المنسحب، والذي يندس دائماً بين خيالاته.
5- الطفل الشارد، والذي يصعب عليه معالجة المعلومات التي تصل إليه.
إنّ الآباء الحريصين يستطيعون تطويع أسلوب تربيتهم حسب نوعية الطفل. فعند التعامل مع الطفل ذي الحسّاسية المفرطة، لابدّ أن يتصرف الأبوان بطريقة رقيقة وفي الوقت نفسه يشجعان الإستقلالية لديه، وتأكيد الذات. ولابدّ من التأكيد على جوانب القوة في شخصية الطفل وإستثمار هذه الجوانب.
فالطفل العنيد سوف يصبح أكثر عنفاً وأكثر عداءً للمجتمع إذا كبر دون أن يتمكن الأبوان من وضع حدٍّ لذلك، لكن الصورة قد تتغير إذا تمكن الأبوان من توفير فرص للطفل لتفريغ طاقته الجسمية ضمن ضوابط محدودة. وعند التعامل مع هذه النوعية من الأطفال، ليس من المنطق أن يطلب منه الجلوس بهدوء، حتى ينهي طعامه، لكن في الوقت نفسه لا يسمح له بالتحرش بالأطفال الآخرين. ويقترح الدكتور "جرينسبان" أن يقوم الأبوان بسؤال الطفل عن سبب قيامه بتنفيذ كل ما يعن له. وفي حالة كان الطفل سلبيّاً يستطيع والداه بلطف أن يسحباه منها دون إصابة ذاته الداخلية بالأذى، ويمكن تحقيق ذلك من خلال إصطناع الألعاب التعاونية والتي تحتاج إلى تفاعل مع الآخرين. أمّا بالنسبة للطفل الشارد والذي لا يستطيع التركيز على موضوع معيّن، يمكن الإستعانة بالموضوعات المصورة ويطلب منه أن يتحدث عن محتواها.
ولا شك أنّه في عصرنا الراهن يعاني كثير من الأفراد من فقدان الثقة بالنفس نظراً لما يمتاز به عصرنا من سرعة التغير المتلاحق، وعجز الإنسان بإمكاناته المتاحة عن بلوغ أهدافه وطموحاته، والشعور بفقدان الثقة بالذات يولد الشعور بالنقص والدونية. ومن المظاهر السلوكية لفقدان الثقة بالذات التردد والتذبذب، حيث يجد الفرد صعوبة في الثبات على سلوك معيّن أو الإستمرار في إتّجاه خاص فتراه يقدم خطوة ويؤخر أخرى، أو يقبل ويتراجع، ويجد صعوبة كبيرة في البت في الأمور وفي إتّخاذ القرارات بنفسه دون مساعدة الآخرين. كذلك فإن من يفتقر إلى الشعور بالثقة تجده يميل إلى الحياء والخجل الزائد، ولذلك يجد صعوبة في مواجهة الناس أو في التحدث أمام مجموعة، أو في مصاحبة الغرباء، كما يميل إلى العزلة.
وفاقد الثقة في نفسه يعجز عن التعبير عن ذاته أو الإفصاح عن رأيه وإتجاهه، كما أنّه يعجز عن التعبير عن قدراته مواهبه وخبراته الحقيقية، ولذلك يبدو في نظر الناس أقل كفاءة مما هو عليه في الواقع، كما يجد صعوبة في إقتحام المواقف الجديدة ويصعب عليه التكيف مع الخبرات الجديدة، كما يحدث عندما يدخل مدرسة جديدة أو يلتحق حين يكبر بالجامعة لأوّل مرّة أو ينقل إلى وظيفة جديدة، وسوف يلاحظ عليه أنّه إنسان هياب يخشى المواقف ويعمل للأمور البسيطة ألف حساب.
فإذا أردنا إستقصاء أسباب فقدان الثقة بالنفس عند الطفل والشاب، فإننا نجد أنّ الدراسات النفسية والخبرات التربوية قد دلت على أن عدم إشباع حاجات الطفل المادية أو الجسمية قد يؤدي إلى شعوره بفقدان الثقة في ذاته. كذلك فإن ما يتعرض له الطفل أو المراهق من الصد والزجر والردع كلما أراد أن يعبر عن ذاته يولد فيه فقدان الشعور بالثقة بهذه الذات.
كذلك فإنّ التلميذ المنبوذ، أي ذلك الطفل الذي لا ترغب فيه الأسرة وتشعره بالطرد والنبذ وعدم القبول أو أنّه فوق حاجة الأسرة الأساسية من الأطفال، يشعر بفقدان الثقة في ذاته. وبالمثل فإنّ الطفل الذي تحرمه الأسرة من التدرب على تحمل المسؤوليات البسيطة يشب فاقداً للثقة في قدراته وإستعداداته وذكائه العام.
ومن الأساليب التربوية الخاطئة التي تؤدي إلى فقدان الثقة بالذات: الميل إلى سب الطفل وتحقيره والتقليل من شأنه ومعايرته ومقارنته بالمتفوقين عليه من أخوته وأخواته أو زملائه أو أبناء الجيران يؤدي إلى شعوره بفقدان الثقة في ذاته. كذلك فإنّ الإكثار من فرض العقوبات على الطفل وخاصة العقاب البدني قد يؤدي إلى أن يفقد الطفل الشعور بالثقة في نفسه والرضا عنها، كذلك فإنّ إهمال الأسرة للطفل وعدم الإهتمام به قد يولد لديه الشعور بالنقص.
فإذا تساءنا: هل تفيد طرق التنشئة؟ يرد ثلاثة من العلماء وهم مؤلفو كتاب "ليس في جيناتنا" (Not in Our Genes) بالإيجاب، من حيث إنّه يصعب التفكير في سلوك إجتماعي مرتبط فقط بالتكوين الجيني دون التمكن من تعديله من خلال التشكيل الإجتماعي. كما يرد نوع آخر من العلماء بأن هذا التصور يبالغ في التفاؤل، حيث إنّ التكوين الجيني هو قدرنا وهو الذي يشكل طريقة تعاملنا مع البيئة التي نعيش فيها.
ويحسم الدكتور "جرينسبان" الأمر بأنّ الخلاف بين الموقفين قائم منذ فترة طويلة، ويعتقد بأنّ القيمة الخاصة بالتعاطف والإبتكار والشرف والحب والثقة جميعها محصلة إلى نوع وتاريخ العلاقة بين الطفل ووالديه وليس للجينات فقط. ولا شك أن تنمية الثقة بالنفس عند الطفل والشاب تبدأ من تربية الإرادة وتدريبها.
فإذا تساءلنا عن الإرادة الإنسانية التي لابدّ من الإهتمام بها وتربيتها، فإنّنا لا نجد في منظومة الدماغ البشري عضواً أو مركزاً أو موقعاً يمكن تسميته بـ(الإرادة)، لذا فهي ملكة من ملكات العقل، والعقل بمعنى الفكر، هو نتاج العمليات الفيزيولوجية والبيولوجية مجتمعة في الدماغ البشري. وهي قوة عظيمة وخارقة في النفس البشرية، بها يرتقي الإنسان إلى أقصى الدرجات، وبها أيضاً ينحدر إلى أسفل الطبقات، لأنّ الإرادة الحية والفاعلة تتحكم في السلوك والتصور والتخيل، ومن أجل نفس شجاعة وقوية ومؤثرة، لابدّ من إرادة قوية وحية وفاعلة.
لذلك فإن قوة الإرادة تعني فاعليتها وتأثيرها على مجمل السلوك الإنساني، فرديّاً كان أو جماعياً. ولا يمكن للإرادة أن تكون قوية وفاعلة إلا من خلال الوضوح في كل عمليات التفكير والإرادة والإستيعاب. فكلما اتضحت المواقف والصيرورات أمام العقل الفردي، وتوازنت قواه وعملياته، تقوت الإرادة من أجل الفعل والعمل الخلّاق والمبدع والمؤثر.
فلا يوجد عطاء إنساني أو إبداع عقلي أو إبتكار ذهني، إلا بالإرادة الفاعلة، لأنّها هي وحدها القوة المحركة والدافع المحرك لسلوك ما، أو من أجل تحقيق هدف ما، وكما يقول علماء النفس: إن لكل سلوك دافعاً، نقول: إنّ الإرادة الحية، هي التي تخلق السلوك الفعال الذي يحركه الدافع. ولا شك أن تربية الطفل، إنسانية أو ديمقراطية، تؤدي إلى شعوره بالثقة في ذاته. من ذلك إحساسه بأنّه يعامل على قدم المساواة مع إخوانه وأخواته فيما له من حقوق ما عليه من واجبات، ينمي فيه الشعور بالثقة في نفسه، كذلك فإن إحساسه بالعدل وبتكافؤ الفرص وبإحترام كيانه ينمي فيه الشعور في ذاته. ومن الوسائل التربوية الهامة إتاحة الحرِّية للطفل للتعبير عن رأيه وعن مشاعره دون صد أو زجر أو إستهزاء.
كذلك فإن إحترام الطفل وإشعاره بأنّه مقبول ومرغوب فيه والإهتمام به دون مبالغة يؤدي إلى تنمية شعوره بالثقة في ذاته، والطفل لكي يشب واثقاً من نفسه ينبغي أن تشبع حاجاته الجسمية والنفسية والإجتماعية، فيشعر بالحب والعطف والدفء والحنان، كذلك لابدّ من تدريب الطفل منذ نعومة أظفاره على تحمل المسؤوليات البسيطة التي تتفق مع قدراته وإستعداداته. وعلينا أن نقف موقفاً وسطاً في التعامل مع الطفل فلا إفراط في ممارسة القسوة والعنف عليه ورفض العقاب والصد والردع والزجر، كذلك لا ينبغي أن تتسم معاملتنا للطفل باللين الزائد والتدليل والحرِّية المطلقة وترك الحبل على الغارب والإذعان والخضوع لكافة مطالبه.
ومن هنا يمكن الإسترشاد بالتوجيهات التربوية العملية الآتية:
* تناول الوجبات معاً: من المستحسن الجلوس مع الأبناء بإنتظام والتحدث معهم كلما كان ذلك ممكناً. لأن مجرد التواصل مع الأبناء من خلال التحدث يفتح المجال لتبادل المعلومات وتعويد الطفل على التفكير المستقل وغرس الإحترام والولاء والمسؤولية. إنّ هذا المناخ يساعد الطفل على بناء الثقة بالنفس وتأكيد الذات. وكما يقول بعض العلماء أنّه بدون بناء ذات داخلية قوية ومتماسكة يجد البعض صعوبة في العطف ومساعدة الآخرين. فهل من الصعب تنظيم الوقت بصورة تتيح الفرصة لتناول الوجبات معاً سواء الغداء أو العشاء حيث تكون فيها فرصة كبيرة للتخاطب والتحاور؟
* إستغلال فترة إيواء الطفل إلى الفراش: تعد فترة الذهاب للنوم من الفترات المناسبة للقيام بمراجعة أحداث اليوم كله، حيث يشعر الطفل بالإطمئنان أكثر، فعندما يعرف الطفل بأن هناك مَن يستمع إلى أحداثه اليومية كالمشكلات التي مر بها أو الإنجازات التي حققها أو المخاوف والإرتباك الذي تعرض له سوف يحس بقيمته الذاتية وسوف يتعلم كيف يكون طيباً ومقدراً للآخرين.
* تعويد الطفل على العطاء: إنّ تعويد الطفل على المشاركة والعطاء من الخصال الهامة جدّاً التي يجب أن تشجع دائماً. فيمكن للأسرة أن تنتهج أسلوب الإشتراك بوضع حصالة منزلية يضع فيها كل فرد في الأسرة مبلغاً من المال، وفي نهاية كل شهر يعطى ما تجمع من نقود إلى المحتاجين.
* إستثمار مشاركتهم الوجدانية: لقد ثبت علمياً بأنّ الطفل نزعة للمشارعة الوجدانية، وليس أدل على ذلك من قيام الطفل بالبكاء عند رؤيته لطفل آخر يبكي، ويمكن إستثمار ذلك عندما يكبر الطفل. وينصح علماء نفس الطفل، بأن يخصص الآباء لأطفالهم عمودين يتضمنان الإجابة على الأسئلة التالية: ماذا فعلت اليوم لأجعل طفلاً آخر سعيداً؟ ماذا فعلت اليوم لأجعل طفلاً آخر تعيساً؟ ولماذا؟ وهذا التمرين مفيد جدّاً للأطفال الذين لديهم مشكلات مع الأطفال الآخرين.
* توجيه أنشطته: ساعد الطفل على الإنخراط والإلتزام بنوع واحد من الأنشطة سواء الرياضية أو الفنية والموسيقية التي تقدم في منطقة السكن، إن إنخراط الطفل بنشاط واحد من الأنشطة سوف يبني لديه حس المسؤولية والإنتماء للمجموعة.
* المساعدة على فهم وجهة نظر الآخر: من المهم على الطفل أن يفهم الأمور من وجهة نظر الآخرين، لذلك عليه أن يضع نفسه مكانهم دائماً في كل أمر، فعلى سبيل المثال: قد يحدث أن لا يصادق طفلك آخر لذلك لا يشاركه ألعابه ولا يوجه له الدعوة لحفلة عيد ميلاده، ببساطة أطلب من طفلك أن يضع نفسه مكان الطفل الآخر وانظر النتيجة.
* التحدّث معه عن نشاطه في المدرسة: لكي تبعد الطفل عن جفاف المادة العلمية والدروس التي عليه أن يحفظها، استرجع معه الأنشطة التي قام بها في المدرسة وبالأخص الأنشطة المحببة، حتى يدرك بأن دور المدرسة لا يقف عند حفظ المعلومات فقط.
* تغيير أسلوب التعامل حسب عمر الطفل: لكل مرحلة سنية أسلوب للتعامل معها، إنّ حديث الأطفال الصغار كثيراً ما يجانب الحقيقة، لكن لا يمكن أن تعده بأنّه كاذب فهو يستخدم خياله الواسع، لكن هذا لا يمنع من أن تبين له بأن ما يقوله ليس حقيقياً. وتوضح له أنّ الحقيقة أمر مطلوب. لكن الأطفال الأكبر سناً يعرفون الفرق بين الصدق والكذب ودور الوالدين هنا هو تسهيل الموقف الذي يساعدهم على تجنب الكذب بل وتشجيعهم على أن يكونوا صادقين.
* كُنْ أنموذجاً للصدق: كثيراً ما يغفل الأبوان عن حقيقة أنّ الأطفال يكتسبون كثيراً من سلوكياتهم من خلال ملاحظة تصرفات الأبوين، وليس ما يقال لهم فحسب، فإذا طلب الأب من إبنه أن يخبر زميله المتصل بالهاتف بأنّه مشغول، وهو غير ذلك، فإن أوّل فكرة سوف تخطر على بال الطفل أن أباه لا يقول الحقيقة، وهكذا لا يمتنع عليه أن يتصرف على نفس الشاكلة.
* عوِّد الطفل على القراءة بوقت مبكر: إنّ كثيراً من المفاهيم والقيم يكتسبها الطفل نتيجة لما يقرأ له من قصص في الكتب أو ما يقرأه هو من قصص تتناسب مع عمره الزمني. إنّ الأفكار والقيم التي تتضمنها هذه الكتب في هذه الفترة تكون أكثر إلتصاقاً ورسوخاً وتمثل القاعدة الأساسية لقيمه. ولا شك أنّ الإسلام يحرص على أن يوجه الطفل توجيهاً سليماً نحو ربّه وأهله وأترابه والوسط الإجتماعي الذي يعيش فيه داخل الأسرة، وخارج نطاق الأسرة، وفي المجتمع العام، حتى يطابق سلوكه أو يقارب المجتمع، ويرضاه الله.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى