كفاية المحتاج في التذكير بمنة الله على الحاج
صفحة 1 من اصل 1
كفاية المحتاج في التذكير بمنة الله على الحاج
هذه كلماتٌ يسيرة،
ونصائحُ ثَمينة، أقدِّمها للحاجِّ الكريم في سَيْرِه لزِيارة البيتِ
الحرام، وما يَنبغي أن يَتحلَّى به مِن مكارمِ الأخلاق، ومعالي الأمور؛
لتَعْظُمَ النعمةُ في نفْسه، وتَكبُر المِنَّة في عينه، فيؤدي فرائض الحجِّ
وواجباتِه وسُننَه على أكملِ وجه، وأتمِّ حال؛ ليرجع مغفورًا له مِن خطايا
الذنوب والآثام، قدْ وضَع عن كاهلِه أوزارَ السِّنين والأيَّام، وقدْ
دفَعَني إلى تَسطيرِ تلك الكلمات، وكتابةِ تلك المجمَلات:
أولاً: تقصير بعضِ الحُجَّاج في واجباتِ الحجِّ فضلاً عن السُّننِ والمستحبَّات؛ استعجالاً منهم لأدائها[1]، ممَّا يفوِّت عليهم أجرًا عظيمًا، مما يدلُّ - وبلا شكٍّ - على ضعْف تعظيمِ شعائرِ الله.
ثانيًا: اتِّخاذ البعضِ مِن الحجَّاج أداء الفريضة وكأنَّها نزهةٌ للترويحِ عن النفس وإجمامها[2]،
فتراهم يَقضُون أوقاتهم في مجالسِ القِيل والقال، وتَضييع الأوقات في
الملهيات المشغِلات، حتى يفوتَهم الكثير مِن الحسنات الصالحات.
ثالثًا:
وهو المقصودُ مِن كتابةِ تِلك الكلمات اليَسيرات، والأسْطُر المعدودات، هو
تذمُّر بعضِ الحجَّاج مِن خِدمة الحملات، وممَّا يُقدَّم لهم مِن جليل
الخِدمات[3]، ومع ذلك تراهُم غيرَ راضين، بل تَجِدهم ساخطين وكأنَّهم جاؤوا للنُّزهةِ والمُتْعة، لا للعبادةِ والطاعة.
وأول ما يَنبغي التذكيرُ به في هذا المقام ما يلي:
1-
النيَّة الخالِصة وأن ينويَ بحَجِّه أداءَ الفريضةِ التي فرَضَها اللهُ
عليه، فيبذلُّ لله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً مِن الهمَّة والنشاط في
الدعوةِ إليه، وإعانةِ المحتاجين، وأن يكونَ عونًا لإخوانِه الحُجَّاجِ مِن
خلالِ سَيْرهِ معهم، وألاَّ يكون عبوسًا ينزعج لأدنَى سببٍ، ويتحمَّل
جفوتَهم وإساءتهم.
2-
أن يَتذكَّر كم مِن أناس لم يتيسرْ لهم الحجُّ لأسبابٍ مادية، بل كم مِن
أناس قضَوا نَحْبَهم ولم يُكتَب لهم الحجُّ، بينما هو وغيرُه يَذهبون متَى
شاؤوا، وفي أيِّ وقتٍ أرادوا، ويتأمَّل كم مِن مرْضَى أعاقهم المرضُ عن
الحجِّ، بل كم مِن أصحَّاء أغنياء لم يُوفَّقوا للهِداية إلى فَريضةِ
الحجِّ مع توفُّر دواعيه، وانعقاد أسبابِه - مِن راحلةٍ وزاد؛ إما جهلاً أو
كسلاً أو ضعفَ إيمان!
3- أن يَتأمَّل حالَ الأوائل مِن الآباء والأجْداد، كم كانوا يَتحمَّلون أعباءَ السَّفر، ويَقطعون الصحراءَ مشيًا أو ركوبًا على الجِمال، مع شِدَّة الحرِّ والقَيظ، وبُعْد المسافات الشاسِعة، ربَّما لأشهرٍ مَعدودة[4]،
ومع ذلك يَحْدُوهم السيرُ شوقًا وفرحًا لأداءِ فريضةِ العُمر، وهو الآن
يُؤدِّي الفريضةَ بأيسرِ سَبيل، وأقل كُلفة حتَّى ظَهَر في العصر ما
يُسمَّى بالحجِّ السريع بالطائِرة، أو ما يُسمَّى مِن باب البيت إلى
المسجدِ الحرام، فهي نِعمةٌ عظيمة، ومِنَّة جَسيمة يَنبغي على الحاجِّ أن
يؤدِّي شُكرَها، ويُعطي حقَّها.
4-
أن يتأمَّل حالَ الأوائل أيضًا في أنَّهم يؤدُّون حَجَّهم ربَّما مع
شِدَّة الجوع، وقِلَّة المؤونة وفقدان الماء، حتى ربَّما ماتَ منهم في
الطريقِ مِن شدَّةِ العطش أو الجوع، بينما هو يتنعَّم بأنواعٍ مِن الزادِ،
حتى يتناولَ ما يَشاء من أطعمةٍ وفاكهة بما يُسمَّى (بالبوفيه المفتوح)[5]،
كل ذلك يَدْعوه أن يَغتنمَ الفرصَ، بل واللحظاتِ في إتقان حَجِّه، وأداء
فَرْضِه على أكملِ وجهٍ وبما يُوافِق السُّنة، وعِندها تعظُم المنَّة
ويَزداد شكرُه للمنعِم، ومن المؤسِف أن ترَى بعضَ الحجَّاج يتذمَّر ويشكو
مِن ضَعْفِ التكييف والتبريد، أو عدمِ وجودِ نوعٍ مِن الأطعمة أو الفاكهة
أو الثريد، أو الفراش الناعم والوسادالوطِيء[6]،
وكأنه أتَى لينام، وليأكُل مِن لذيذ الطعام، حتى يُضيِّع المسكينُ حَجَّه،
ويغويه شيطانُه، فيرجع بخُفَّي حنين، بل بوِزرين، وبعضُهم يمنُّ بمالِه
الذي أنْفَقه للحَملةِ بكَونِهم مقصِّرين معه في الجُملة، فيقعد يسبُّ
ويَشتُم، ويزبد ويعربد، عسى أن يردُّوا له الدَّين، بل ويحاسبهم على القِرش
والقرشين، والله المستعان!
5-
أنَّ المسلِمَ يرَى المملكة السعودية قدَّمت كلَّ ما يُيسِّر للحاجِّ أداء
فرْضه مِن وسائل نقْل، وتوسعةٍ في الشعائر - كرَمْي الجَمَرات - وراحة في
الفنادق، حتى في مِنى وعَرفة يجِد الحاجُّ الراحةَ التامَّة في الخيام؛
ليبذلَ وُسعَه في أداء العبادات، وأداء الطاعات، وفي رَمْي الجمرات يجِد
عدمَ المشقَّة، وهذا يَدْعوه إلى يَشكُر مَن أسدَى إليه المعروفَ بالدُّعاء
والتوفيق[7]، حتى أصبحتِ المسافاتُ بيْن الشعائرِ يسيرةً مِن خلال وسائلِ النقل والمواصلات، وهذا مِن النِّعم التي تستوجِب الثناءَ والشُّكر.
6-
وسائِل التَّعليم من كُتُب ومطويَّات، ورسائل ومرئيَّات، إضافةً إلى
وسائلَ مرئيَّةٍ وصوتيَّة ميسَّرة ومنتشرة في كلِّ مكان، يَتعلَّم مِن
خلالها الحاجُّ مناسكَ الحج، وما يَنبغي فعلُه، وما هو المحظورُ عليه،
والواجِب عليه، وما هو المسنونُ والمستحبُّ، كل ذلك مِن المِنن والنِّعم
التي تَدعو الحاجَّ إلى شُكرها، وألاَّ يكون ناكرًا للجميلِ فيَضع حجَّه
بالشَّكْوى والتذمُّر مع تقصيرِه المفرِط في واجِبه، والواجِبات تنقسِم إلى
- فيما نحن بصَددِه -:
1-
واجب بدَني مِن تحمُّلِ أعباء السَّفَر، ومشاقِّ الرِّحلة بنفسٍ صابرة
محتسِبة للأجْر مع حُسن التعامُل مع مَن معه مِن حجَّاج بيتِ الله،
واعتبارهم أنَّهم إخوةٌ له يَجِب عليه أن يؤدِّيَ حقَّ الأخوة تُجاههم
ذَهابًا وإيابًا.
2-
واجب قَلْبي، وهو الأهمُّ والأعظمُ مِن الرغبةِ الصادِقة، والمحبَّة
العظيمة لشعائرِ الله، وأن يُؤدِّيَ بحب وإيمان قوي؛ حتى يشعرَ بحلاوتها
ومنافعها القلبيَّة مِن سَعة الصدر، وحلاوة الإيمان وقُرَّة العين، وبَرْد
اليقين، بل ويَتمنَّى أن يعيشَ في أجوائها، ويتخيَّل ظروفها وتاريخها مع
الأنبياء والصادقين والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، بل ويتخيَّل أنَّه مع
رسولِ البريَّة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يَندفِع مِن مِنًى
إلى عَرَفةَ، ومِن عرفة إلى مزدلفة، ومِن مُزدلفة إلى رمْي الجمرات، ثم
الطواف بالبيت والسَّعْي بيْن الصفا والمروة، فيُؤدِّي حَجَّه بشوقٍ وراحة
مع الذِّكر والأذْكار، وأن يَلْهَج لسانُه بالثناء والذِّكر لِمَن أَنعَم
عليه بتلك النِّعمة، وأفاض عليه بتلك الرَّحْمَة، واختاره مِن بين الملايين
لضيافتِه، وأكْرَمَه مِن بينهم لزِيارتِه.
ومِن أفْضل ما يُعين على تذكُّرِ مِنَّة الله على الحاجِّ ما يلي:
1-
الإخلاص أساس قَبولِ العَمل، وأعظم ما يُذكِّر بمِنَّةِ الله ونِعمه، وهو
الذي يُثمر الشُّكرَ والقناعة، والرِّضا بما قسَم الله، ويُبعِد الحاجَّ عن
التكبُّر والتعالي على عبادِ الله، وقد أمر - جلَّ وعلا - بالتزوُّدِ
بالتقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وقدْ أخْرَج البخاريُّ بسندِه عن ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كان أهلُ اليمن يَحجُّون ولا يتزوَّدون، ويقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قَدِموا مَكَّةَ سألوا الناس، فأَنْزَل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وهو يَشْمَل الزادَ الماديَّ والإيماني - بلا شكٍّ[8].
2- أن
يختارَ الرفقةَ الصالحةَ التي تُعينه إذا ذَكَر، وتُذكِّره إذا نسِي،
ويُزهِّدونه في الدنيا، ويُرغِّبونه في نَيل المثوبة والأجْر، ويحذر مِن
مرافقة مَن يُحقِّرون مِن نعمة الله، ويُعظِّمون الدنيا في عينه، ويجعلونه
يتسخَّط مِن المقدور، وكلَّما حصَل مكروهٌ في الحملة نَسَبوه إلى صاحبها
ومديرها، حتى ينسَى الهدفَ الأسمَى الذي جاءَ مِن أجْلِه، والغاية التي
تَرك مِن أجلها المالَ والبَنين.
3-
أن يُعوِّدَ نفسَه على القناعة بما قسَم الله والرِّضا بالقليل، فلا يشترط
أن ينالَ العبدُ كلَّ ما يتمنَّاه، وينال كلَّ ما يُريده، وليتذكَّر حالَ
نبينا أشرف الخَلق وأنبلهم خلقًا، وأعظمهم صبرًا في حالِ سفرِه وتَرحاله؛
كيف كان لا يَجِد حتى ربَّما التَّمْرة[9]،
وليأخذه قدوةً ومنارًا يَقتدِي به في صبرِه وخُلُقه، وحِلْمه ورَحمته،
وليفطم نفسَه أحيانًا عن بعضِ المباحات، والملذَّات النفسيَّة مِن الأطعِمة
الفاخِرة، وليقنعْ باليسيرِ مِن الطعامِ والشَّراب، ويترُك بعضًا مِن
حُظوظِه وشَهواته، فسيجد ثمرة ذلك في نفْسِه وحَياتِه.
4-
ليتذكَّر الحاجُّ مثوبةَ الحجِّ وأجْرَه، وما يترتَّب عليه مِن عظيمِ
الأجْر والثواب الجسيم، فلا يُضيِّعه لأتفهِ الأسباب، وليوازنْ بفِكْرِه
وعقْله؛ هل يَنبغي عليه أن يُفوِّت على نفْسِه الأجرَ والمغفرةَ؛ مِن أجل
أنَّ المنام لم يكُن مريحًا، أو أن (الباص) لم يكن باردًا، أو أنَّ الطعام
لم يتوفَّرْ فيه نوعٌ مِن الأغذية أو الفاكهة أو الشاي أو القهوة وغيرها،
وهو مِن أعجبِ العُجاب، بل يَنبغي على الحاجِّ أن يكونَ سمحًا لَيِّنًا
هيِّنًا، فيُنفق من ماله، ويُطعم الجائعَ ويُغيث الملهوف، ويُساعِد
المحتاج، حتى تمتلئَ نفسُه بالمحبَّة لعبادِ الله.
5-
ليجعلِ الحاجُّ الخوفَ سائقَه مِن عدمِ قَبول الحجِّ - لا قَدَّر الله -
فما أكثر مَن يقصد البيتَ الحرام، فيكون حجُّه إما غير موافق للهدي
النبويِّ، أو يكون حجُّه مباهةً وسُمعةً؛ لأجْل أن يقولَ الناس عنه: إنَّه
حاجّ، وقدْ جاء في الأثَر الذي رَواه عبد الرزَّاق في "المصنف" (5/ 19) عن
ابنِ عُمرَ لما قال رجلٌ: ما أكثر الحاجَّ! أجابه ابنُ عُمرَ بقوله: "بل
ما أكثرَ الركبَ وما أقلَّ الحاجَّ! ثم رَأى رجلاً على بعير، على رحْلٍ
رثٍّ، خِطامه حبل، فقال: لعلَّ هذا".
•
أن يحاولَ الحاجُّ الابتعادَ - إنِ استطاع إلى ذلك - عن مقرِّ الحملةِ في
أوقاتِ العِبادات العظيمة، مِثل يوم عَرفة، وفي مِنى ليفرع نفْسه للدُّعاء
والذِّكْر، وقِراءة القرآن، ولا يكون ضِمن الحُملة إلاَّ عندَ الحاجة إليه،
وإن أمْكَنه أن يكونَ قدوةً لغيرِه في الدعوةِ والصبر، والنُّصح والتذكِرة
ضِمنَ حملته ورِفاقه فهو أفْضَل.
• أن يعوِّد نفسَه على التَّعَب والنَّصَب في سبيلِ الله، ألم تسمعْ قوله: ﴿ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ
يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [التوبة: 120]، فلا يضجرْ أو يتسخَّط إذا أوقفه (الباص)
بعيدًا عن مكان الإقامة، أو وصَل إلى مقرِّ الفندق ولم يَجِد المنام
جاهزًا، بل يأخُذُ الأمْر بنفسٍ سمْحة ليِّنة، وليمشِ تلك المسافة،
وليسترحْ قليلاً ولو على الأرض، ويحتسب الأجْر، ولينظرْ إلى غيرِه مِن
حُجَّاج بيت الله مِن الدول الآسيويَّة وهم يقطعون المسافاتِ مشيًا على
الأقدام ذَهابًا وإيابًا إلى الصلاةِ في المسجدِ الحرام، رغمَ بُعْدِ
المسافة.
• أن يصحبَ معه كتبًا خاصَّة في الأدعية والفوائد[10]، والفرائد المتعلِّقة بالحجِّ، وليتمعَّن فيها ويتدبَّر معانيَها، ولو صَحِب معه رفيقًا صالحًا يُعينه في ذلك لكان أوْفَق.
•
أن يَقرأَ سِيرَ السَّلف الصالح مِن قبلنا في حجِّهم، وإحسانهم لإخوانهم،
وإنفاقهم على الأخلاَّء والأصحاب، ومِنهم المُحدِّث عبدالله بن المبارك؛
فقد كان لسخاءِ نفسِه وكرمِه يُنفِق على أصحابِه؛ مِن أجلِ تحقيق القُربةِ
والمثوبة؛ يقول الذهبيُّ عنه: "كان ابنُ المبارك إذا كان وقتُ الحجِّ
اجتمَع إليه إخوانُه مِن أهلِ مَرْو، فيقولون: نَصْحَبك، فيقول: هاتوا
نفقاتِكم، فيأخذ نَفقاتِهم فيجعلها في صُندوق ويقفل عليها، ثم يَكتري لهم
ويُخرِجهم مِن مرو إلى بغداد، فلا يزال يُنفِق عليهم ويُطعمِهم أطيبَ
الطعام وأطيبَ الحلوى، ثم يُخرِجهم مِن بغداد بأحسنِ زِيٍّ وأكْمل مُروءة،
حتى يصلوا إلى مدينةِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[11].
وأخيرًا أيُّها الحاج:
اجعلْ
لك بصمةً خاصَّة، فأنت في رِحلتك للحجِّ داعيةٌ وناصِح، ذَكِّر الناس
بنِعمة الله عليهم، ومِنَّته الجسيمة فيهم، قُم بقَدْرِ ما تستطيع
بالتجوُّلِ على الجاليات المسلِمة وغيرهم، وتعليمهم معاني الإسلام بتوزيعِ
الكُتُب المعرِّفة بدِين الإسلام، وقُمْ بخِدمة الحُجَّاج؛ ففيها الثوابُ
العظيم، ولتُظهرِ الابتسامةَ على شفتيك، وليتَّسعْ صدرُك لتعطي صورةً
حَسَنة، وتعكس هَدي الإسلام مِن خلالِ خُلُقك وتعاملك مع مَن حولك، وستشعر
عندئذٍ بمتعةٍ تملأُ قلبك، وحلاوة إيمانيَّة تغمُر قلبَك، تهون عَليك جميعَ
المتاعب، بل ستَجِد في المتاعبِ راحةً ولذَّةً، وسعادةً واطمئنانًا، هي
ثمرة قوله - تعالى -: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].
[1] بعض
الحُجَّاج - هداهم الله - يَتتبَّعون الرُّخَصَ؛ مِن أجلِ اختصار مناسِك
الحجِّ، وكأنَّهم يُسابقون الوقتَ، وما هي إلا أيام معدودات يَقضيها
الحاجُّ في أداء المناسِك، فعليه أن يصبر ويؤديها بصِدق واطمئنان.
[2] ولا شك أنَّ الحج نوعٌ من أنواع السِّياحة في سبيلِ الله وجهاد، خاصَّة في حقِّ النساء - كما جاء في الحديثِ الشريف.
[3] هناك
تقصيرٌ مِن لدن بعضِ الحملات مِن ناحية المواعيدِ واختصار المناسِك؛
للاستفادة من أموال الحجَّاج المدفوعة، والبعض يتَّخذُ ذلك تجارةً على حساب
راحةِ الحجَّاج، وكله لا يُسوِّغ للحاجِّ أن يردَّ الإساءة بمثلها.
[4] حدَّثني
بعضُ كِبار السن أنَّه كان برفقةِ الحج على الجِمالِ، حيث تستغرق الرحلةُ
أكثرَ مِن ستة أشهر ذَهابًا وأخرى إيابًا، حتى أخَذَهم العطشُ فنزلوا بئرًا
فوجدوا فيها ماءً قد اسودَّ مِن المكث فشَربوه كأنَّما يشربون ماءً
زلالاً.
[5] نظرتُ
إلى هذا (البوفيه المفتوح) فإذا فيه ثلاث وجبات في اليوم، فيها ألوانٌ مِن
الأطعمة - إفطار وغداء وعشاء - فقلت: أين نحن مِن سلفنا الصالح؟! هل يَقبل
عاقلٌ بعدَ ذلك النعيم أن يقابلَه بالتذمُّر؟!
[6] بعض
الحُجَّاج في الحملة التي كنتُ فيها واعظًا بدأ يُصيح ويسبُّ صاحبَ
الحملة، فتبيَّن أنَّ غضبَه؛ لأجل أن (البوفيه) ينقصه الحليب مع الجبن أو
نحوه، وبعضُهم بدأ يصيح ويرفَع صوتَه؛ لأنَّه لم يأكلْ مِن لحم أضحيته، وقد
رأينا عجبًا من ذلك.
[7] وخاصَّة
لوُلاة الأمر والقائمين والمشرِفين على إدارة شؤون الحجِّ، فلا ينسَ
الحاجُّ أن يجعلَ لهم مِن دعائه نصيبًا، فإنَّ مَن لا يَشكُر الناسَ لا
يَشكُر الله.
[8] تفسير الحافظ ابن كثير - المجلد الأول - الجزء الثاني - (ص: 223)، طبع المكتبة القيمة للنشر والتوزيع.
[9] ممَّا
يُعين الحاجَّ على ذلك قِراءةُ ما يَتعلَّق بمناسكِ حَجِّه - صلَّى الله
عليه وسلَّم - مِن المدينة إلى المسجدِ الحرام مع أصحابِه، وهو يُرشدهم
ويُعلِّمهم ويُفقِّههم طولَ الطريق، وتحمُّله وصَبْره وخُلُقه وسماحته
ورحمته؛ مشيًا وركوبًا على الجِمال، وليتخيَّلِ الحاج أنَّه مع سيِّد
البرية، وأنَّه يعيش أجواء تلك الحَجَّة المبارَكة، فسيجد دافعًا له على
التحلِّي بالصبر ومكارِم الأخلاق.
[10] مِن أفضلِها وأنفعها كُتُب العلاَّمة ابن باز - عليه الرحمة والرضوان - فهي واضحةٌ سهلة الفَهم ميسَّرة للعالِم وطالِب العلم.
[11] "سير أعلام النبلاء" - الطبقة السابعة، انظر: (ص386) وما يليها.
ونصائحُ ثَمينة، أقدِّمها للحاجِّ الكريم في سَيْرِه لزِيارة البيتِ
الحرام، وما يَنبغي أن يَتحلَّى به مِن مكارمِ الأخلاق، ومعالي الأمور؛
لتَعْظُمَ النعمةُ في نفْسه، وتَكبُر المِنَّة في عينه، فيؤدي فرائض الحجِّ
وواجباتِه وسُننَه على أكملِ وجه، وأتمِّ حال؛ ليرجع مغفورًا له مِن خطايا
الذنوب والآثام، قدْ وضَع عن كاهلِه أوزارَ السِّنين والأيَّام، وقدْ
دفَعَني إلى تَسطيرِ تلك الكلمات، وكتابةِ تلك المجمَلات:
أولاً: تقصير بعضِ الحُجَّاج في واجباتِ الحجِّ فضلاً عن السُّننِ والمستحبَّات؛ استعجالاً منهم لأدائها[1]، ممَّا يفوِّت عليهم أجرًا عظيمًا، مما يدلُّ - وبلا شكٍّ - على ضعْف تعظيمِ شعائرِ الله.
ثانيًا: اتِّخاذ البعضِ مِن الحجَّاج أداء الفريضة وكأنَّها نزهةٌ للترويحِ عن النفس وإجمامها[2]،
فتراهم يَقضُون أوقاتهم في مجالسِ القِيل والقال، وتَضييع الأوقات في
الملهيات المشغِلات، حتى يفوتَهم الكثير مِن الحسنات الصالحات.
ثالثًا:
وهو المقصودُ مِن كتابةِ تِلك الكلمات اليَسيرات، والأسْطُر المعدودات، هو
تذمُّر بعضِ الحجَّاج مِن خِدمة الحملات، وممَّا يُقدَّم لهم مِن جليل
الخِدمات[3]، ومع ذلك تراهُم غيرَ راضين، بل تَجِدهم ساخطين وكأنَّهم جاؤوا للنُّزهةِ والمُتْعة، لا للعبادةِ والطاعة.
وأول ما يَنبغي التذكيرُ به في هذا المقام ما يلي:
1-
النيَّة الخالِصة وأن ينويَ بحَجِّه أداءَ الفريضةِ التي فرَضَها اللهُ
عليه، فيبذلُّ لله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً مِن الهمَّة والنشاط في
الدعوةِ إليه، وإعانةِ المحتاجين، وأن يكونَ عونًا لإخوانِه الحُجَّاجِ مِن
خلالِ سَيْرهِ معهم، وألاَّ يكون عبوسًا ينزعج لأدنَى سببٍ، ويتحمَّل
جفوتَهم وإساءتهم.
2-
أن يَتذكَّر كم مِن أناس لم يتيسرْ لهم الحجُّ لأسبابٍ مادية، بل كم مِن
أناس قضَوا نَحْبَهم ولم يُكتَب لهم الحجُّ، بينما هو وغيرُه يَذهبون متَى
شاؤوا، وفي أيِّ وقتٍ أرادوا، ويتأمَّل كم مِن مرْضَى أعاقهم المرضُ عن
الحجِّ، بل كم مِن أصحَّاء أغنياء لم يُوفَّقوا للهِداية إلى فَريضةِ
الحجِّ مع توفُّر دواعيه، وانعقاد أسبابِه - مِن راحلةٍ وزاد؛ إما جهلاً أو
كسلاً أو ضعفَ إيمان!
3- أن يَتأمَّل حالَ الأوائل مِن الآباء والأجْداد، كم كانوا يَتحمَّلون أعباءَ السَّفر، ويَقطعون الصحراءَ مشيًا أو ركوبًا على الجِمال، مع شِدَّة الحرِّ والقَيظ، وبُعْد المسافات الشاسِعة، ربَّما لأشهرٍ مَعدودة[4]،
ومع ذلك يَحْدُوهم السيرُ شوقًا وفرحًا لأداءِ فريضةِ العُمر، وهو الآن
يُؤدِّي الفريضةَ بأيسرِ سَبيل، وأقل كُلفة حتَّى ظَهَر في العصر ما
يُسمَّى بالحجِّ السريع بالطائِرة، أو ما يُسمَّى مِن باب البيت إلى
المسجدِ الحرام، فهي نِعمةٌ عظيمة، ومِنَّة جَسيمة يَنبغي على الحاجِّ أن
يؤدِّي شُكرَها، ويُعطي حقَّها.
4-
أن يتأمَّل حالَ الأوائل أيضًا في أنَّهم يؤدُّون حَجَّهم ربَّما مع
شِدَّة الجوع، وقِلَّة المؤونة وفقدان الماء، حتى ربَّما ماتَ منهم في
الطريقِ مِن شدَّةِ العطش أو الجوع، بينما هو يتنعَّم بأنواعٍ مِن الزادِ،
حتى يتناولَ ما يَشاء من أطعمةٍ وفاكهة بما يُسمَّى (بالبوفيه المفتوح)[5]،
كل ذلك يَدْعوه أن يَغتنمَ الفرصَ، بل واللحظاتِ في إتقان حَجِّه، وأداء
فَرْضِه على أكملِ وجهٍ وبما يُوافِق السُّنة، وعِندها تعظُم المنَّة
ويَزداد شكرُه للمنعِم، ومن المؤسِف أن ترَى بعضَ الحجَّاج يتذمَّر ويشكو
مِن ضَعْفِ التكييف والتبريد، أو عدمِ وجودِ نوعٍ مِن الأطعمة أو الفاكهة
أو الثريد، أو الفراش الناعم والوسادالوطِيء[6]،
وكأنه أتَى لينام، وليأكُل مِن لذيذ الطعام، حتى يُضيِّع المسكينُ حَجَّه،
ويغويه شيطانُه، فيرجع بخُفَّي حنين، بل بوِزرين، وبعضُهم يمنُّ بمالِه
الذي أنْفَقه للحَملةِ بكَونِهم مقصِّرين معه في الجُملة، فيقعد يسبُّ
ويَشتُم، ويزبد ويعربد، عسى أن يردُّوا له الدَّين، بل ويحاسبهم على القِرش
والقرشين، والله المستعان!
5-
أنَّ المسلِمَ يرَى المملكة السعودية قدَّمت كلَّ ما يُيسِّر للحاجِّ أداء
فرْضه مِن وسائل نقْل، وتوسعةٍ في الشعائر - كرَمْي الجَمَرات - وراحة في
الفنادق، حتى في مِنى وعَرفة يجِد الحاجُّ الراحةَ التامَّة في الخيام؛
ليبذلَ وُسعَه في أداء العبادات، وأداء الطاعات، وفي رَمْي الجمرات يجِد
عدمَ المشقَّة، وهذا يَدْعوه إلى يَشكُر مَن أسدَى إليه المعروفَ بالدُّعاء
والتوفيق[7]، حتى أصبحتِ المسافاتُ بيْن الشعائرِ يسيرةً مِن خلال وسائلِ النقل والمواصلات، وهذا مِن النِّعم التي تستوجِب الثناءَ والشُّكر.
6-
وسائِل التَّعليم من كُتُب ومطويَّات، ورسائل ومرئيَّات، إضافةً إلى
وسائلَ مرئيَّةٍ وصوتيَّة ميسَّرة ومنتشرة في كلِّ مكان، يَتعلَّم مِن
خلالها الحاجُّ مناسكَ الحج، وما يَنبغي فعلُه، وما هو المحظورُ عليه،
والواجِب عليه، وما هو المسنونُ والمستحبُّ، كل ذلك مِن المِنن والنِّعم
التي تَدعو الحاجَّ إلى شُكرها، وألاَّ يكون ناكرًا للجميلِ فيَضع حجَّه
بالشَّكْوى والتذمُّر مع تقصيرِه المفرِط في واجِبه، والواجِبات تنقسِم إلى
- فيما نحن بصَددِه -:
1-
واجب بدَني مِن تحمُّلِ أعباء السَّفَر، ومشاقِّ الرِّحلة بنفسٍ صابرة
محتسِبة للأجْر مع حُسن التعامُل مع مَن معه مِن حجَّاج بيتِ الله،
واعتبارهم أنَّهم إخوةٌ له يَجِب عليه أن يؤدِّيَ حقَّ الأخوة تُجاههم
ذَهابًا وإيابًا.
2-
واجب قَلْبي، وهو الأهمُّ والأعظمُ مِن الرغبةِ الصادِقة، والمحبَّة
العظيمة لشعائرِ الله، وأن يُؤدِّيَ بحب وإيمان قوي؛ حتى يشعرَ بحلاوتها
ومنافعها القلبيَّة مِن سَعة الصدر، وحلاوة الإيمان وقُرَّة العين، وبَرْد
اليقين، بل ويَتمنَّى أن يعيشَ في أجوائها، ويتخيَّل ظروفها وتاريخها مع
الأنبياء والصادقين والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، بل ويتخيَّل أنَّه مع
رسولِ البريَّة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يَندفِع مِن مِنًى
إلى عَرَفةَ، ومِن عرفة إلى مزدلفة، ومِن مُزدلفة إلى رمْي الجمرات، ثم
الطواف بالبيت والسَّعْي بيْن الصفا والمروة، فيُؤدِّي حَجَّه بشوقٍ وراحة
مع الذِّكر والأذْكار، وأن يَلْهَج لسانُه بالثناء والذِّكر لِمَن أَنعَم
عليه بتلك النِّعمة، وأفاض عليه بتلك الرَّحْمَة، واختاره مِن بين الملايين
لضيافتِه، وأكْرَمَه مِن بينهم لزِيارتِه.
ومِن أفْضل ما يُعين على تذكُّرِ مِنَّة الله على الحاجِّ ما يلي:
1-
الإخلاص أساس قَبولِ العَمل، وأعظم ما يُذكِّر بمِنَّةِ الله ونِعمه، وهو
الذي يُثمر الشُّكرَ والقناعة، والرِّضا بما قسَم الله، ويُبعِد الحاجَّ عن
التكبُّر والتعالي على عبادِ الله، وقد أمر - جلَّ وعلا - بالتزوُّدِ
بالتقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وقدْ أخْرَج البخاريُّ بسندِه عن ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كان أهلُ اليمن يَحجُّون ولا يتزوَّدون، ويقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قَدِموا مَكَّةَ سألوا الناس، فأَنْزَل الله تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وهو يَشْمَل الزادَ الماديَّ والإيماني - بلا شكٍّ[8].
2- أن
يختارَ الرفقةَ الصالحةَ التي تُعينه إذا ذَكَر، وتُذكِّره إذا نسِي،
ويُزهِّدونه في الدنيا، ويُرغِّبونه في نَيل المثوبة والأجْر، ويحذر مِن
مرافقة مَن يُحقِّرون مِن نعمة الله، ويُعظِّمون الدنيا في عينه، ويجعلونه
يتسخَّط مِن المقدور، وكلَّما حصَل مكروهٌ في الحملة نَسَبوه إلى صاحبها
ومديرها، حتى ينسَى الهدفَ الأسمَى الذي جاءَ مِن أجْلِه، والغاية التي
تَرك مِن أجلها المالَ والبَنين.
3-
أن يُعوِّدَ نفسَه على القناعة بما قسَم الله والرِّضا بالقليل، فلا يشترط
أن ينالَ العبدُ كلَّ ما يتمنَّاه، وينال كلَّ ما يُريده، وليتذكَّر حالَ
نبينا أشرف الخَلق وأنبلهم خلقًا، وأعظمهم صبرًا في حالِ سفرِه وتَرحاله؛
كيف كان لا يَجِد حتى ربَّما التَّمْرة[9]،
وليأخذه قدوةً ومنارًا يَقتدِي به في صبرِه وخُلُقه، وحِلْمه ورَحمته،
وليفطم نفسَه أحيانًا عن بعضِ المباحات، والملذَّات النفسيَّة مِن الأطعِمة
الفاخِرة، وليقنعْ باليسيرِ مِن الطعامِ والشَّراب، ويترُك بعضًا مِن
حُظوظِه وشَهواته، فسيجد ثمرة ذلك في نفْسِه وحَياتِه.
4-
ليتذكَّر الحاجُّ مثوبةَ الحجِّ وأجْرَه، وما يترتَّب عليه مِن عظيمِ
الأجْر والثواب الجسيم، فلا يُضيِّعه لأتفهِ الأسباب، وليوازنْ بفِكْرِه
وعقْله؛ هل يَنبغي عليه أن يُفوِّت على نفْسِه الأجرَ والمغفرةَ؛ مِن أجل
أنَّ المنام لم يكُن مريحًا، أو أن (الباص) لم يكن باردًا، أو أنَّ الطعام
لم يتوفَّرْ فيه نوعٌ مِن الأغذية أو الفاكهة أو الشاي أو القهوة وغيرها،
وهو مِن أعجبِ العُجاب، بل يَنبغي على الحاجِّ أن يكونَ سمحًا لَيِّنًا
هيِّنًا، فيُنفق من ماله، ويُطعم الجائعَ ويُغيث الملهوف، ويُساعِد
المحتاج، حتى تمتلئَ نفسُه بالمحبَّة لعبادِ الله.
5-
ليجعلِ الحاجُّ الخوفَ سائقَه مِن عدمِ قَبول الحجِّ - لا قَدَّر الله -
فما أكثر مَن يقصد البيتَ الحرام، فيكون حجُّه إما غير موافق للهدي
النبويِّ، أو يكون حجُّه مباهةً وسُمعةً؛ لأجْل أن يقولَ الناس عنه: إنَّه
حاجّ، وقدْ جاء في الأثَر الذي رَواه عبد الرزَّاق في "المصنف" (5/ 19) عن
ابنِ عُمرَ لما قال رجلٌ: ما أكثر الحاجَّ! أجابه ابنُ عُمرَ بقوله: "بل
ما أكثرَ الركبَ وما أقلَّ الحاجَّ! ثم رَأى رجلاً على بعير، على رحْلٍ
رثٍّ، خِطامه حبل، فقال: لعلَّ هذا".
وممَّا يُعين على ما تقدَّم:
•
أن يحاولَ الحاجُّ الابتعادَ - إنِ استطاع إلى ذلك - عن مقرِّ الحملةِ في
أوقاتِ العِبادات العظيمة، مِثل يوم عَرفة، وفي مِنى ليفرع نفْسه للدُّعاء
والذِّكْر، وقِراءة القرآن، ولا يكون ضِمن الحُملة إلاَّ عندَ الحاجة إليه،
وإن أمْكَنه أن يكونَ قدوةً لغيرِه في الدعوةِ والصبر، والنُّصح والتذكِرة
ضِمنَ حملته ورِفاقه فهو أفْضَل.
• أن يعوِّد نفسَه على التَّعَب والنَّصَب في سبيلِ الله، ألم تسمعْ قوله: ﴿ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ
يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [التوبة: 120]، فلا يضجرْ أو يتسخَّط إذا أوقفه (الباص)
بعيدًا عن مكان الإقامة، أو وصَل إلى مقرِّ الفندق ولم يَجِد المنام
جاهزًا، بل يأخُذُ الأمْر بنفسٍ سمْحة ليِّنة، وليمشِ تلك المسافة،
وليسترحْ قليلاً ولو على الأرض، ويحتسب الأجْر، ولينظرْ إلى غيرِه مِن
حُجَّاج بيت الله مِن الدول الآسيويَّة وهم يقطعون المسافاتِ مشيًا على
الأقدام ذَهابًا وإيابًا إلى الصلاةِ في المسجدِ الحرام، رغمَ بُعْدِ
المسافة.
• أن يصحبَ معه كتبًا خاصَّة في الأدعية والفوائد[10]، والفرائد المتعلِّقة بالحجِّ، وليتمعَّن فيها ويتدبَّر معانيَها، ولو صَحِب معه رفيقًا صالحًا يُعينه في ذلك لكان أوْفَق.
•
أن يَقرأَ سِيرَ السَّلف الصالح مِن قبلنا في حجِّهم، وإحسانهم لإخوانهم،
وإنفاقهم على الأخلاَّء والأصحاب، ومِنهم المُحدِّث عبدالله بن المبارك؛
فقد كان لسخاءِ نفسِه وكرمِه يُنفِق على أصحابِه؛ مِن أجلِ تحقيق القُربةِ
والمثوبة؛ يقول الذهبيُّ عنه: "كان ابنُ المبارك إذا كان وقتُ الحجِّ
اجتمَع إليه إخوانُه مِن أهلِ مَرْو، فيقولون: نَصْحَبك، فيقول: هاتوا
نفقاتِكم، فيأخذ نَفقاتِهم فيجعلها في صُندوق ويقفل عليها، ثم يَكتري لهم
ويُخرِجهم مِن مرو إلى بغداد، فلا يزال يُنفِق عليهم ويُطعمِهم أطيبَ
الطعام وأطيبَ الحلوى، ثم يُخرِجهم مِن بغداد بأحسنِ زِيٍّ وأكْمل مُروءة،
حتى يصلوا إلى مدينةِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[11].
وأخيرًا أيُّها الحاج:
اجعلْ
لك بصمةً خاصَّة، فأنت في رِحلتك للحجِّ داعيةٌ وناصِح، ذَكِّر الناس
بنِعمة الله عليهم، ومِنَّته الجسيمة فيهم، قُم بقَدْرِ ما تستطيع
بالتجوُّلِ على الجاليات المسلِمة وغيرهم، وتعليمهم معاني الإسلام بتوزيعِ
الكُتُب المعرِّفة بدِين الإسلام، وقُمْ بخِدمة الحُجَّاج؛ ففيها الثوابُ
العظيم، ولتُظهرِ الابتسامةَ على شفتيك، وليتَّسعْ صدرُك لتعطي صورةً
حَسَنة، وتعكس هَدي الإسلام مِن خلالِ خُلُقك وتعاملك مع مَن حولك، وستشعر
عندئذٍ بمتعةٍ تملأُ قلبك، وحلاوة إيمانيَّة تغمُر قلبَك، تهون عَليك جميعَ
المتاعب، بل ستَجِد في المتاعبِ راحةً ولذَّةً، وسعادةً واطمئنانًا، هي
ثمرة قوله - تعالى -: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97].
[1] بعض
الحُجَّاج - هداهم الله - يَتتبَّعون الرُّخَصَ؛ مِن أجلِ اختصار مناسِك
الحجِّ، وكأنَّهم يُسابقون الوقتَ، وما هي إلا أيام معدودات يَقضيها
الحاجُّ في أداء المناسِك، فعليه أن يصبر ويؤديها بصِدق واطمئنان.
[2] ولا شك أنَّ الحج نوعٌ من أنواع السِّياحة في سبيلِ الله وجهاد، خاصَّة في حقِّ النساء - كما جاء في الحديثِ الشريف.
[3] هناك
تقصيرٌ مِن لدن بعضِ الحملات مِن ناحية المواعيدِ واختصار المناسِك؛
للاستفادة من أموال الحجَّاج المدفوعة، والبعض يتَّخذُ ذلك تجارةً على حساب
راحةِ الحجَّاج، وكله لا يُسوِّغ للحاجِّ أن يردَّ الإساءة بمثلها.
[4] حدَّثني
بعضُ كِبار السن أنَّه كان برفقةِ الحج على الجِمالِ، حيث تستغرق الرحلةُ
أكثرَ مِن ستة أشهر ذَهابًا وأخرى إيابًا، حتى أخَذَهم العطشُ فنزلوا بئرًا
فوجدوا فيها ماءً قد اسودَّ مِن المكث فشَربوه كأنَّما يشربون ماءً
زلالاً.
[5] نظرتُ
إلى هذا (البوفيه المفتوح) فإذا فيه ثلاث وجبات في اليوم، فيها ألوانٌ مِن
الأطعمة - إفطار وغداء وعشاء - فقلت: أين نحن مِن سلفنا الصالح؟! هل يَقبل
عاقلٌ بعدَ ذلك النعيم أن يقابلَه بالتذمُّر؟!
[6] بعض
الحُجَّاج في الحملة التي كنتُ فيها واعظًا بدأ يُصيح ويسبُّ صاحبَ
الحملة، فتبيَّن أنَّ غضبَه؛ لأجل أن (البوفيه) ينقصه الحليب مع الجبن أو
نحوه، وبعضُهم بدأ يصيح ويرفَع صوتَه؛ لأنَّه لم يأكلْ مِن لحم أضحيته، وقد
رأينا عجبًا من ذلك.
[7] وخاصَّة
لوُلاة الأمر والقائمين والمشرِفين على إدارة شؤون الحجِّ، فلا ينسَ
الحاجُّ أن يجعلَ لهم مِن دعائه نصيبًا، فإنَّ مَن لا يَشكُر الناسَ لا
يَشكُر الله.
[8] تفسير الحافظ ابن كثير - المجلد الأول - الجزء الثاني - (ص: 223)، طبع المكتبة القيمة للنشر والتوزيع.
[9] ممَّا
يُعين الحاجَّ على ذلك قِراءةُ ما يَتعلَّق بمناسكِ حَجِّه - صلَّى الله
عليه وسلَّم - مِن المدينة إلى المسجدِ الحرام مع أصحابِه، وهو يُرشدهم
ويُعلِّمهم ويُفقِّههم طولَ الطريق، وتحمُّله وصَبْره وخُلُقه وسماحته
ورحمته؛ مشيًا وركوبًا على الجِمال، وليتخيَّلِ الحاج أنَّه مع سيِّد
البرية، وأنَّه يعيش أجواء تلك الحَجَّة المبارَكة، فسيجد دافعًا له على
التحلِّي بالصبر ومكارِم الأخلاق.
[10] مِن أفضلِها وأنفعها كُتُب العلاَّمة ابن باز - عليه الرحمة والرضوان - فهي واضحةٌ سهلة الفَهم ميسَّرة للعالِم وطالِب العلم.
[11] "سير أعلام النبلاء" - الطبقة السابعة، انظر: (ص386) وما يليها.
مواضيع مماثلة
» وفاة حوحاط الحاج بالرابح بن المختار
» التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
» أيها الحاج .. تذكر حرمة البيت العتيق
» لماذا حرم الله تعالى والنبي الكريم الخلوة بالنساء ؟ إعجـــاز رائع (سبحــــــان الله)
» القصيدة التي أبكت رسول الله صلى الله عليه و سلم
» التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
» أيها الحاج .. تذكر حرمة البيت العتيق
» لماذا حرم الله تعالى والنبي الكريم الخلوة بالنساء ؟ إعجـــاز رائع (سبحــــــان الله)
» القصيدة التي أبكت رسول الله صلى الله عليه و سلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى