افتتـاح مدرسة "دار الحديـث" بتلمسان
صفحة 1 من اصل 1
افتتـاح مدرسة "دار الحديـث" بتلمسان
ما دمنا نتحدث عن دار الحديث، فها هي مراسلة مراسل ( مُكاتب مجلة الشهاب كما كان يسمى ) من مكدينة تلمسان تنشر له المجلة هذه المراسلة التي تتبع فيها اطوار الافتتاح
الاحــتــفــال الرائــع
بافتتـاح مدرسة "دار الحديـث" بتلمسان
**************
لم تشهد تلمسان في تاريخها الحديث يوما أبهج ولا أروع ولا أجمل ولا أمتع، من يوم 22 رجب من هذه السنة، ذلك اليوم الذي تقاطرت فيه وفود القطر من كل ناحية لشهود افتتاح مدرسة "دار الحديث" التي قامت على جهود أخينا الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي وعلى كرم أهالي تلمسان خصوصا وجود الأمة الجزائرية دوما.
حقا لقد كان ذلك رائعا، وقد كان ـ والله ـ جميلا جليلا، وحسبه إن تجلت فيه الروح الاسلامية الكامنة في نفوس أبناء هذا الشعب الطاهر الكريم في أبدع صورة وأروعها وحسبه أن كان مظهرا عظيما كشف به جانب جانب القومية العربية الاسلامية القوية الخالدة، وحسبه أن أرغم أنوفا، وطأطأ رؤوسا، وخفض جباها، طالما تشامخت احتقارا وترفعت كبرا، وتقطبت ظلما وعتوا. وحسبه أن فتح عيونا ونبع عقولا، وفتح قلوبا كانت عمياء لم تبصر السبيل، وذاهلة لم تدرك الدليل وبليدة لم تفقه الحكمة. وحسبه أن أقحم الجاحد، وأرغم المعاند، وهزم المستبد، وأذل الظالم.
أتدرون ما هي انشودة ذلك اليوم؟ لقد كانت أنشودته.
أنــا الإســـلام
جئت بسيف الحجة والبرهان، لا بآية السيف والسنان لنفتح القلوب للتقوى والإيمان، لا لنستعبد البشر وننزع الأوطان. ها أنا الإسلام القوي لا أخرج من ارض دخلتها ولا من قلوب عمــرتها. هـا أنــا الإسـلام القــوي إلـى الأبــد، الثابت إلـى قيــام الساعــة فاحزنوا يا خصوم، وافرحوا يا أنصار.
أنـا العربـيـة
جئت كريمة على هذا الوطن فاحتضنني، وأخذت عليه العهد أن لا يتركني فكان منه الوفاء، وكان مني الكفاء، وهاهم جنودي، أسود وأشبال، نساء ورجال، يتسابقون إلى تكريمي، ويبالغون في احترامي، ويحنون إلي كأم رؤوم، وأعتز بهم كأبناء بررة أقوياء. فما أسعدني بهم وأسعدهم بي.
أنـا القوميــة
أنا القومية الجزائرية بما فيها من لغة ودين وتاريخ ومجد، وذكريات زعماء أبطال، وجهابذة في العلم مثالا للكمال، وحاليات بالصلاح من وراء الجبال، وهاهم حراسي الأمناء يكتنفونني، يسلمون الأرواح ولا يسلمونني.
الله أكبر ما أعظمني من يوم وما أجمل واقوي ما في من حياة.
لندع ذلك اليوم يردد أنشودته فإنها خالدة مثله. ولنحافظ على ذكراه في القلوب ولنردد معه الأنشودة من حين لحين.
فـي المحطة والطريـق...
في الساعة العاشرة ونصف من صباح يوم الاثنين 22 رجب 1356 وصل المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى محطة تلمسان فوجد في انتظاره داخل المحطة الأستاذ الإبراهيمي ومعه جم غفير من أبناء تلمسان وبعد تبادل التحية تقدم أطفال ثلاثة بباقات الزهر الذكي فسلموا إحداها للأستاذ رئيس الجمعية وأخرى للأستاذ أمين مالها، والثالثة للأستاذ كاتبها العام ثم تقدم الطفل النبيه محمد الإبراهيمي وألقى بين يدي الــرئيـس خطــابا لطـــيفـا رقــيـقـا عــــبـر فـــيـه عـــــن
شعوره وشعور أهالي تلمسان الطيب نحو جمعية العلماء ومجلسها الإداري، ثمّ خرج المجلس من المحطة يتقدمه الرئيس وكان في خارجها صفان كالجبلين من الخلايق إن حزرتهما بالآلاف كنت مقصرا، وإن عددتهما بعشرات الآلاف لم تكن مبالغا. فسار المجلس ووراءه الضيوف بين الصفين اللذين كانا على غاية من التنسيق وكانت أصوات الحامدين المسبحين المكبرين لله رب العالمين تصل إلى أعماق القلوب فتزيدها إيمانا واطمئنانا، وكانت عجائز النساء يخللن هذه المظاهرات بالولولة والزغاريد. فما أحمق هذا اليوم بما سماه به الأستاذ الإبراهيمي "العرس العلمي".
عند باب المدرسة
وواصل الضيوف سيرهم حتى وقفوا على باب المدرسة فوقف الأستاذ الإبراهيمي يخاطب الأستاذ رئيس الجمعية وهو يناوله المفتاح بهذه الكلمات البليغة:" أخي الأستاذ الرئيس لو علمت في القطر الجزائري بل في العالم الإسلامي رجلا في مثل حالتك له يد على العلم مثل يدكم، وفضل على الناشئة مثل فضلكم، لا ترثه دونكم بفتح هذه المدرسة ولكني لم أجد، فباسم تلمسان وباسم الجمعية الدينية بالخصوص أناولكم المفتاح فهل لهذه المدرسة أن تتشرف بذلك؟"
فتناول الأستاذ الرئيس المفتاح وقال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم على اسم الإسلام والعروبة، والعلم والفضيلة، أفتح مدرسة "دار الحديث" ربنا أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، ربنا أدخلنا مدخل صدق وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا. جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا."
ثم فتح الباب ودخل، ودخل معه العلماء والضيوف الذين جاءوا من جميع نــواحي القـطر، فتفرجوا على داخـل المدرسة سفليها ثــم علويها، وكـان مـا حـول المدرسة قد اكتظ بالخلائق فخرج عليهم الأستاذ الإبراهيمي وأشار عليهم بالانصراف فصاحوا بصوت واحد: الرئيس ابن باديس، فأطل عليهم هو والعلماء من (البالكون) وخاطبهم بالكلمات الآتية :
" يا أبناء تلمسان يا أبناء الجزائر إن العروبة من عهد تبع إلى اليوم تحييكم، وإن الإسلام من يوم محمد إلى اليوم يحييكم، وان أجيال الجزائر من اليوم إلى يوم القيامة تشكركم وتذكر صنيعكم بالجميل.
يا أبناء تلمسان كانت عندكم أمانة من تاريخنا المجيد فأديتموها فنعم الأمناء أنتم، فجزاكم الله جزاء الأمناء والسلام عليكم ورحمة الله."
ثم افترقت الجموع الحاشدة وذهب الضيوف لتناول طعام الغداء في بيوت التلمسانيين الكرام.
في العشية
وفي الساعة الرابعة عشية رجع العلماء للمدرسة حيث كان الخلائق ينتظرون سماع الخطب والدروس، فصعدوا للسدة يتقدمهم رئيسهم فلما استقل كل منهم بكرسيه قام الأستاذ الإبراهيمي وتقدم من مضخم الصوت وقد الأستاذ طالب عبد السلام رئيس الجمعية الدينية ليتلو خطاب الترحب باسمها. فتقدم هذا وتلا خطابا رحب فيه بالضيوف وبين فضل العلماء على النهضة الجزائرية الحديثة وذكر من مجد تلمسان ووصف المدرسة وشكر جهود منشئيها وختم بالهتاف بحياة الجزائر الإسلامية وتلمسان ثم قام الأستاذ الإبراهيمي وارتجل خطابا ساحرا عرض فيه بإسهاب المؤسسات العلمية في تلمسان وتاريخها وذكر من أسماء العلماء الذين رفعوا رأس تلمسان عاليا وكانوا السبب في ربطها من الناحية العلمية بالشرق والتعريف بها في عواصمه، ثم عرج على ذكر مدرسة "دار الحديث" المحتفل بفتحها فقال: " الفضل في إنشاء هــذه المدرسة العظيمة لا يـــرجع لأحد غير جمــعية العلمـــاء المســلمين الجزائريين، فكل فضل لهذا العاجز هو قطرة من بحر فضل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين."
ثم حي العلماء وشكرهم وذكر من خدمتهم للعلم والدين ومن سعيهم الجدي لتخليص المساجد من يد الحكومة المستبدة بها غير مراعية في ذلك ما تعهدت به من التباعد عن كل تدخل في أمور المسلمين الدينية وقال: لابد من يوم يأتي نحتل فيه مساجدنا ونتمتع بحريتنا التامة فيها، فاستعدوا لهذا اليوم.
ثم حث على تأسيس المدارس وقال: يجب أن نتدارك بها الإسلام والعربية في ناشئتنا المقبلة.
وهنا تلا برقيتين وردت عليه إحداهما من زعيم المغرب الأستاذ علال الفاسي وأخرى من الأستاذ عباس فرحات من سطيف أبدى كلاهما شعوره الطيب ومشاركته الروحية الصادقة معتذرا عن الحضور.
ثم ندد بأعمال الجور والظلم التي حبست عددا عظيما من إخواننا المغاربة في وجدة وافتكت منهم رخصهم وقد كانوا عازمين على المشاركة في الاحتفال، ثم احتج بكل شدة ضد هذه المعاملة القاسية في عصر يسمونه عصر الديمقراطية والحرية.
وختم بشكر الحاضرين وعرفهم بأن الأستاذ الرئيس سيفتح الكلام في "دار الحديث" بدرس يلقيه في الحديث.
درس الرئيس
كان الرئيس جالسا على كرسيه أمام (الميكرو) وقد ظهر عليه وقار العلم وفضيلة المعرفة في أجلى صورهما، وكان الناس من السكينة والوقار كان على رؤوسهم الطير.
فافتتح بحمد الله وبالصلاة على نبيه [صلى الله عليه وسلم] ثم روى حديثا بالسند المتصل بالبخاري ومسلم وهو قوله [صلى الله عليه وسلم]: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم الحديث "
و ليعذرني القراء إذا فوت عليهم خلاصة هذا الدرس فإنه ليس من الدروس أو الخطب التي تكثر فيها الألفاظ وتقل المعاني فيكتفي في نقله بالبعض عن الكل وبالخلاصة عن جميع ما قيل، لا ـ والله ـ أن هذا الدرس كانت ألفاظه على قدر معانيه ومعانيه لا تستغني عن قليل من ألفاظه. وكان آية في متانة الأسلوب وحسن البيان. فإذا كانت خسارة القراء فيه لا تعوض فلست المسؤول فلقد ـ والله ـ حاولت نقله فخانني الجهل بفن الاختزال.
وفي أثناء كلام الرئيس على قوله [صلى الله عليه وسلم] من علم وعلم أخرج من جيبه خمسمائة فرنك إعانة للمدرسة ليكون قدوة للناس. وفي ختام الدرس وقف ودعا بدعاء حار مقتبس من القرآن العظيم وحديث النبي الكريم [صلى الله عليه وسلم]، وتلا الفاتحة.
وبإئر ذلك قام السيد الحاج أحمد بن خليل ودعا الناس لإعانة المدرسة وابتدأ هو بدفع ثلاثمائة فرنك للقدوة فتبارى الناس بعده في البذل أحسن الله جزاءهم آمين.
ثمّ افترقت الجموع الحاشدة وذهب الضيوف لتناول طعام العشاء في بيوت التلمسانيين الكرام.
في الليل
وفي الساعة التاسعة ليلا عاد الناس للاستفادة وعاد العلماء للإفادة، وكان المتعين للدرس الأستاذان الشيخ مبارك الميلي، والشيخ العربي التبسي. فألقى الأول درسا في حديث " إنما الأعمال بالنيات..." وألقى الثاني درسا في قوله تعالى: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ...} [آل عمران: 180] فكان درساهما من الطراز العالي الذي يذكر بكبار علماء السلف، وكانا كأنهما أرادا أن يذكرا الناس بأساليب الدروس لا بمجرد الحكمة التي في الدروس.
وعلـى أثـرهما قـام الأستـاذ الرئيس [ يقصد ابن باديس] متحمسا و قـال: على ذكر الهجرة، في حديث " إنما الأعمال بالنيات " أذكر أني لما زرت المدينة المنورة واتصلت فيها بشيخي الأستاذ حمدان الونيسي المهاجر الجزائري وشيخي حسين أحمد الهندي أشار علي الأول بالهجرة إلى المدينة وقطع كل علاقة لي بالوطن، وأشار علي الثاني ـ وكان عالما حكيما ـ بالعودة إلى الوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد، فحقق الله رأي الشيخ الثاني ورجعنا للوطن بقصد خدمته، فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية بجميع مدعماتها في هذا الوطن، فعلا الهتاف والتصفيق بحياة الإسلام والعربية.
ثمّ تقدم الأستاذ الشيخ محمد العيد(شاعر شمال إفريقيا) وألقى قصيدة كلها عيون وغرر، فعرض فيها من ماض أمتنا وحاضرها عرضا شعريا بليغا ملك القلوب وسحر العواطف، ومطلع القصيدة
أحي بالرضى حرما يزار ... ودارا تستضل بها الديار
وبعد الانتهاء من إنشادها افترق الناس على أن يرجعوا صباح الغد لسماع بقية الخطباء والشعراء.
صباح اليوم الثاني
كان المقرر في صباح اليوم الثاني أن يسمع الناس خطاب الأستاذ الفضيل الورتلاني عن سير الحركة العلمية التي تغذيها جمعية العلماء بفرنسا وما كان الوقت المحدد حتى اكتضت رحاب المدرسة بالخلائق وصعد العلماء على السدة، وتقدم الأستاذ الفضيل من (الميكرو) وألقى خطابا طويلا عرض فيه بفصاحته الخلابة، وبيانه الساحر، ما تم من الأعمال العلمية على يد رجال جمعية العلماء في فرنسا فقوطع بالتصفيق والهتاف بحياة العاملين مرارا، وقد أخذ من الوقت ما يقرب من ساعتين.
ثم تقدم الأستاذ محمد العيد وألقى قصيدة استنهاضية عامرة أثارت إعجاب الحاضرين بالشاعر، وأطلقت ألسنتهم بالدعاء ببقائه، ومطلعها
دعاك الأمل ... لخير العمل
ثمّ تقدّم الشيخ الشاعر الأستاذ أبو اليقظان فألقى قصيدة عصماء بعد أن قدم لها مقدمة بليغة ومطلعها.
تلمسان تيهي بهذا الفخار ... وباهي العواصم بين البشر
وبهذه القصيدة ختمت حفلة الصباح.
مأدبة في البساتين
خرج الضيوف من المدرسة تقلهم السيارات إلى بساتين السيد ابن قلفاط حيث أقيمت لهم مأدبة غذاء وعشاء اشتركت فيها أكثر الجمعيات والنوادي التلمسانية جلس الضيوف تحت ظل الأشجار الضليل وحول عيون الماء العذب السلسبيل، فتناولوا ما لذّ وطاب من الطعام ثمّ شربوا الشاي، مزيجا بنغمات الناي، على الطريقة الأندلسية التي كان يقوم بها المطرب الشهير الشيخ العربي وفرقته.
ثمّ ركب بعض الضيوف سيارات ذهبت بهم إلى المنصورة فوقفوا على آثارها معتبرين بتصرفات الدهر، وتقلبات الأيام. ثم رجعوا إلى البساتين حيث تناولوا مع بقية الضيوف طعام العشاء وسمعوا الألحان الأندلسية ممتعة من فرقة الشيخ العربي. وفي الاعة السابقة تمت الحفلة الرسمية.
في نادي السعادة
دعا نادي السعادة هيأة العلماء ومن بقي من الضيوف لحفلة شاي تكريمية فقبلت دعوته وذهب الضيوف للنادي تقلهم السيارات فوجدوه غاصا بأحباب العلماء و أنصارهم ، وما أخذ الضيوف أماكنهم حتى قام الشيخ ابن علي بوعياد وألقى خطابا بليغا في الترحيب بالضيوف ثم طلبت الكلمة من الأستاذ فرحات بن الدراجي ثم من كاتب هاته السطور ثم من الأستاذ الفضيل الورتلاني فتكلم كل بما يناسب المقام، وانتهت الحفلة بسلام.
شكر الله كرم أهالي تلمسان وأعانهم على صالح الأعمال
الجزائر27 رجب 1356 مصطفى بن حلوش
__________________
الاحــتــفــال الرائــع
بافتتـاح مدرسة "دار الحديـث" بتلمسان
**************
لم تشهد تلمسان في تاريخها الحديث يوما أبهج ولا أروع ولا أجمل ولا أمتع، من يوم 22 رجب من هذه السنة، ذلك اليوم الذي تقاطرت فيه وفود القطر من كل ناحية لشهود افتتاح مدرسة "دار الحديث" التي قامت على جهود أخينا الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي وعلى كرم أهالي تلمسان خصوصا وجود الأمة الجزائرية دوما.
حقا لقد كان ذلك رائعا، وقد كان ـ والله ـ جميلا جليلا، وحسبه إن تجلت فيه الروح الاسلامية الكامنة في نفوس أبناء هذا الشعب الطاهر الكريم في أبدع صورة وأروعها وحسبه أن كان مظهرا عظيما كشف به جانب جانب القومية العربية الاسلامية القوية الخالدة، وحسبه أن أرغم أنوفا، وطأطأ رؤوسا، وخفض جباها، طالما تشامخت احتقارا وترفعت كبرا، وتقطبت ظلما وعتوا. وحسبه أن فتح عيونا ونبع عقولا، وفتح قلوبا كانت عمياء لم تبصر السبيل، وذاهلة لم تدرك الدليل وبليدة لم تفقه الحكمة. وحسبه أن أقحم الجاحد، وأرغم المعاند، وهزم المستبد، وأذل الظالم.
أتدرون ما هي انشودة ذلك اليوم؟ لقد كانت أنشودته.
أنــا الإســـلام
جئت بسيف الحجة والبرهان، لا بآية السيف والسنان لنفتح القلوب للتقوى والإيمان، لا لنستعبد البشر وننزع الأوطان. ها أنا الإسلام القوي لا أخرج من ارض دخلتها ولا من قلوب عمــرتها. هـا أنــا الإسـلام القــوي إلـى الأبــد، الثابت إلـى قيــام الساعــة فاحزنوا يا خصوم، وافرحوا يا أنصار.
أنـا العربـيـة
جئت كريمة على هذا الوطن فاحتضنني، وأخذت عليه العهد أن لا يتركني فكان منه الوفاء، وكان مني الكفاء، وهاهم جنودي، أسود وأشبال، نساء ورجال، يتسابقون إلى تكريمي، ويبالغون في احترامي، ويحنون إلي كأم رؤوم، وأعتز بهم كأبناء بررة أقوياء. فما أسعدني بهم وأسعدهم بي.
أنـا القوميــة
أنا القومية الجزائرية بما فيها من لغة ودين وتاريخ ومجد، وذكريات زعماء أبطال، وجهابذة في العلم مثالا للكمال، وحاليات بالصلاح من وراء الجبال، وهاهم حراسي الأمناء يكتنفونني، يسلمون الأرواح ولا يسلمونني.
الله أكبر ما أعظمني من يوم وما أجمل واقوي ما في من حياة.
لندع ذلك اليوم يردد أنشودته فإنها خالدة مثله. ولنحافظ على ذكراه في القلوب ولنردد معه الأنشودة من حين لحين.
فـي المحطة والطريـق...
في الساعة العاشرة ونصف من صباح يوم الاثنين 22 رجب 1356 وصل المجلس الإداري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى محطة تلمسان فوجد في انتظاره داخل المحطة الأستاذ الإبراهيمي ومعه جم غفير من أبناء تلمسان وبعد تبادل التحية تقدم أطفال ثلاثة بباقات الزهر الذكي فسلموا إحداها للأستاذ رئيس الجمعية وأخرى للأستاذ أمين مالها، والثالثة للأستاذ كاتبها العام ثم تقدم الطفل النبيه محمد الإبراهيمي وألقى بين يدي الــرئيـس خطــابا لطـــيفـا رقــيـقـا عــــبـر فـــيـه عـــــن
شعوره وشعور أهالي تلمسان الطيب نحو جمعية العلماء ومجلسها الإداري، ثمّ خرج المجلس من المحطة يتقدمه الرئيس وكان في خارجها صفان كالجبلين من الخلايق إن حزرتهما بالآلاف كنت مقصرا، وإن عددتهما بعشرات الآلاف لم تكن مبالغا. فسار المجلس ووراءه الضيوف بين الصفين اللذين كانا على غاية من التنسيق وكانت أصوات الحامدين المسبحين المكبرين لله رب العالمين تصل إلى أعماق القلوب فتزيدها إيمانا واطمئنانا، وكانت عجائز النساء يخللن هذه المظاهرات بالولولة والزغاريد. فما أحمق هذا اليوم بما سماه به الأستاذ الإبراهيمي "العرس العلمي".
عند باب المدرسة
وواصل الضيوف سيرهم حتى وقفوا على باب المدرسة فوقف الأستاذ الإبراهيمي يخاطب الأستاذ رئيس الجمعية وهو يناوله المفتاح بهذه الكلمات البليغة:" أخي الأستاذ الرئيس لو علمت في القطر الجزائري بل في العالم الإسلامي رجلا في مثل حالتك له يد على العلم مثل يدكم، وفضل على الناشئة مثل فضلكم، لا ترثه دونكم بفتح هذه المدرسة ولكني لم أجد، فباسم تلمسان وباسم الجمعية الدينية بالخصوص أناولكم المفتاح فهل لهذه المدرسة أن تتشرف بذلك؟"
فتناول الأستاذ الرئيس المفتاح وقال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم على اسم الإسلام والعروبة، والعلم والفضيلة، أفتح مدرسة "دار الحديث" ربنا أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، ربنا أدخلنا مدخل صدق وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا. جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا."
ثم فتح الباب ودخل، ودخل معه العلماء والضيوف الذين جاءوا من جميع نــواحي القـطر، فتفرجوا على داخـل المدرسة سفليها ثــم علويها، وكـان مـا حـول المدرسة قد اكتظ بالخلائق فخرج عليهم الأستاذ الإبراهيمي وأشار عليهم بالانصراف فصاحوا بصوت واحد: الرئيس ابن باديس، فأطل عليهم هو والعلماء من (البالكون) وخاطبهم بالكلمات الآتية :
" يا أبناء تلمسان يا أبناء الجزائر إن العروبة من عهد تبع إلى اليوم تحييكم، وإن الإسلام من يوم محمد إلى اليوم يحييكم، وان أجيال الجزائر من اليوم إلى يوم القيامة تشكركم وتذكر صنيعكم بالجميل.
يا أبناء تلمسان كانت عندكم أمانة من تاريخنا المجيد فأديتموها فنعم الأمناء أنتم، فجزاكم الله جزاء الأمناء والسلام عليكم ورحمة الله."
ثم افترقت الجموع الحاشدة وذهب الضيوف لتناول طعام الغداء في بيوت التلمسانيين الكرام.
في العشية
وفي الساعة الرابعة عشية رجع العلماء للمدرسة حيث كان الخلائق ينتظرون سماع الخطب والدروس، فصعدوا للسدة يتقدمهم رئيسهم فلما استقل كل منهم بكرسيه قام الأستاذ الإبراهيمي وتقدم من مضخم الصوت وقد الأستاذ طالب عبد السلام رئيس الجمعية الدينية ليتلو خطاب الترحب باسمها. فتقدم هذا وتلا خطابا رحب فيه بالضيوف وبين فضل العلماء على النهضة الجزائرية الحديثة وذكر من مجد تلمسان ووصف المدرسة وشكر جهود منشئيها وختم بالهتاف بحياة الجزائر الإسلامية وتلمسان ثم قام الأستاذ الإبراهيمي وارتجل خطابا ساحرا عرض فيه بإسهاب المؤسسات العلمية في تلمسان وتاريخها وذكر من أسماء العلماء الذين رفعوا رأس تلمسان عاليا وكانوا السبب في ربطها من الناحية العلمية بالشرق والتعريف بها في عواصمه، ثم عرج على ذكر مدرسة "دار الحديث" المحتفل بفتحها فقال: " الفضل في إنشاء هــذه المدرسة العظيمة لا يـــرجع لأحد غير جمــعية العلمـــاء المســلمين الجزائريين، فكل فضل لهذا العاجز هو قطرة من بحر فضل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين."
ثم حي العلماء وشكرهم وذكر من خدمتهم للعلم والدين ومن سعيهم الجدي لتخليص المساجد من يد الحكومة المستبدة بها غير مراعية في ذلك ما تعهدت به من التباعد عن كل تدخل في أمور المسلمين الدينية وقال: لابد من يوم يأتي نحتل فيه مساجدنا ونتمتع بحريتنا التامة فيها، فاستعدوا لهذا اليوم.
ثم حث على تأسيس المدارس وقال: يجب أن نتدارك بها الإسلام والعربية في ناشئتنا المقبلة.
وهنا تلا برقيتين وردت عليه إحداهما من زعيم المغرب الأستاذ علال الفاسي وأخرى من الأستاذ عباس فرحات من سطيف أبدى كلاهما شعوره الطيب ومشاركته الروحية الصادقة معتذرا عن الحضور.
ثم ندد بأعمال الجور والظلم التي حبست عددا عظيما من إخواننا المغاربة في وجدة وافتكت منهم رخصهم وقد كانوا عازمين على المشاركة في الاحتفال، ثم احتج بكل شدة ضد هذه المعاملة القاسية في عصر يسمونه عصر الديمقراطية والحرية.
وختم بشكر الحاضرين وعرفهم بأن الأستاذ الرئيس سيفتح الكلام في "دار الحديث" بدرس يلقيه في الحديث.
درس الرئيس
كان الرئيس جالسا على كرسيه أمام (الميكرو) وقد ظهر عليه وقار العلم وفضيلة المعرفة في أجلى صورهما، وكان الناس من السكينة والوقار كان على رؤوسهم الطير.
فافتتح بحمد الله وبالصلاة على نبيه [صلى الله عليه وسلم] ثم روى حديثا بالسند المتصل بالبخاري ومسلم وهو قوله [صلى الله عليه وسلم]: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم الحديث "
و ليعذرني القراء إذا فوت عليهم خلاصة هذا الدرس فإنه ليس من الدروس أو الخطب التي تكثر فيها الألفاظ وتقل المعاني فيكتفي في نقله بالبعض عن الكل وبالخلاصة عن جميع ما قيل، لا ـ والله ـ أن هذا الدرس كانت ألفاظه على قدر معانيه ومعانيه لا تستغني عن قليل من ألفاظه. وكان آية في متانة الأسلوب وحسن البيان. فإذا كانت خسارة القراء فيه لا تعوض فلست المسؤول فلقد ـ والله ـ حاولت نقله فخانني الجهل بفن الاختزال.
وفي أثناء كلام الرئيس على قوله [صلى الله عليه وسلم] من علم وعلم أخرج من جيبه خمسمائة فرنك إعانة للمدرسة ليكون قدوة للناس. وفي ختام الدرس وقف ودعا بدعاء حار مقتبس من القرآن العظيم وحديث النبي الكريم [صلى الله عليه وسلم]، وتلا الفاتحة.
وبإئر ذلك قام السيد الحاج أحمد بن خليل ودعا الناس لإعانة المدرسة وابتدأ هو بدفع ثلاثمائة فرنك للقدوة فتبارى الناس بعده في البذل أحسن الله جزاءهم آمين.
ثمّ افترقت الجموع الحاشدة وذهب الضيوف لتناول طعام العشاء في بيوت التلمسانيين الكرام.
في الليل
وفي الساعة التاسعة ليلا عاد الناس للاستفادة وعاد العلماء للإفادة، وكان المتعين للدرس الأستاذان الشيخ مبارك الميلي، والشيخ العربي التبسي. فألقى الأول درسا في حديث " إنما الأعمال بالنيات..." وألقى الثاني درسا في قوله تعالى: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ...} [آل عمران: 180] فكان درساهما من الطراز العالي الذي يذكر بكبار علماء السلف، وكانا كأنهما أرادا أن يذكرا الناس بأساليب الدروس لا بمجرد الحكمة التي في الدروس.
وعلـى أثـرهما قـام الأستـاذ الرئيس [ يقصد ابن باديس] متحمسا و قـال: على ذكر الهجرة، في حديث " إنما الأعمال بالنيات " أذكر أني لما زرت المدينة المنورة واتصلت فيها بشيخي الأستاذ حمدان الونيسي المهاجر الجزائري وشيخي حسين أحمد الهندي أشار علي الأول بالهجرة إلى المدينة وقطع كل علاقة لي بالوطن، وأشار علي الثاني ـ وكان عالما حكيما ـ بالعودة إلى الوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد، فحقق الله رأي الشيخ الثاني ورجعنا للوطن بقصد خدمته، فنحن لا نهاجر، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية بجميع مدعماتها في هذا الوطن، فعلا الهتاف والتصفيق بحياة الإسلام والعربية.
ثمّ تقدم الأستاذ الشيخ محمد العيد(شاعر شمال إفريقيا) وألقى قصيدة كلها عيون وغرر، فعرض فيها من ماض أمتنا وحاضرها عرضا شعريا بليغا ملك القلوب وسحر العواطف، ومطلع القصيدة
أحي بالرضى حرما يزار ... ودارا تستضل بها الديار
وبعد الانتهاء من إنشادها افترق الناس على أن يرجعوا صباح الغد لسماع بقية الخطباء والشعراء.
صباح اليوم الثاني
كان المقرر في صباح اليوم الثاني أن يسمع الناس خطاب الأستاذ الفضيل الورتلاني عن سير الحركة العلمية التي تغذيها جمعية العلماء بفرنسا وما كان الوقت المحدد حتى اكتضت رحاب المدرسة بالخلائق وصعد العلماء على السدة، وتقدم الأستاذ الفضيل من (الميكرو) وألقى خطابا طويلا عرض فيه بفصاحته الخلابة، وبيانه الساحر، ما تم من الأعمال العلمية على يد رجال جمعية العلماء في فرنسا فقوطع بالتصفيق والهتاف بحياة العاملين مرارا، وقد أخذ من الوقت ما يقرب من ساعتين.
ثم تقدم الأستاذ محمد العيد وألقى قصيدة استنهاضية عامرة أثارت إعجاب الحاضرين بالشاعر، وأطلقت ألسنتهم بالدعاء ببقائه، ومطلعها
دعاك الأمل ... لخير العمل
ثمّ تقدّم الشيخ الشاعر الأستاذ أبو اليقظان فألقى قصيدة عصماء بعد أن قدم لها مقدمة بليغة ومطلعها.
تلمسان تيهي بهذا الفخار ... وباهي العواصم بين البشر
وبهذه القصيدة ختمت حفلة الصباح.
مأدبة في البساتين
خرج الضيوف من المدرسة تقلهم السيارات إلى بساتين السيد ابن قلفاط حيث أقيمت لهم مأدبة غذاء وعشاء اشتركت فيها أكثر الجمعيات والنوادي التلمسانية جلس الضيوف تحت ظل الأشجار الضليل وحول عيون الماء العذب السلسبيل، فتناولوا ما لذّ وطاب من الطعام ثمّ شربوا الشاي، مزيجا بنغمات الناي، على الطريقة الأندلسية التي كان يقوم بها المطرب الشهير الشيخ العربي وفرقته.
ثمّ ركب بعض الضيوف سيارات ذهبت بهم إلى المنصورة فوقفوا على آثارها معتبرين بتصرفات الدهر، وتقلبات الأيام. ثم رجعوا إلى البساتين حيث تناولوا مع بقية الضيوف طعام العشاء وسمعوا الألحان الأندلسية ممتعة من فرقة الشيخ العربي. وفي الاعة السابقة تمت الحفلة الرسمية.
في نادي السعادة
دعا نادي السعادة هيأة العلماء ومن بقي من الضيوف لحفلة شاي تكريمية فقبلت دعوته وذهب الضيوف للنادي تقلهم السيارات فوجدوه غاصا بأحباب العلماء و أنصارهم ، وما أخذ الضيوف أماكنهم حتى قام الشيخ ابن علي بوعياد وألقى خطابا بليغا في الترحيب بالضيوف ثم طلبت الكلمة من الأستاذ فرحات بن الدراجي ثم من كاتب هاته السطور ثم من الأستاذ الفضيل الورتلاني فتكلم كل بما يناسب المقام، وانتهت الحفلة بسلام.
شكر الله كرم أهالي تلمسان وأعانهم على صالح الأعمال
الجزائر27 رجب 1356 مصطفى بن حلوش
__________________
بوزيان13- عدد المساهمات : 295
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 13/03/2011
العمر : 51
الموقع : salman@aloadah.com
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى